المذكرة التاسعة

لا، لا تقولي رحلتي كانت طويلة
ما زلت أذكر كل شيء عنك يا طيبة الجميلة
إني دفنتك في فؤادي
بين أضلاعي العليلة
لا في التراب. و قد أجسك حين أمسك
كل شيء في جواري
القرط يحمل ليل شعرك و المواقد حرَّ ناري
حتى ثيابك لا يزال عبيرها عبقاً بداري
صندوقك الهندي ذو الأصداف و الحق الصغير
قبران لي و لقلبي الدامي الكسير
يا للملاءة و العباءة غيمتان
في أفق أيامي و ما أحلى السواد
لما يوشحها، ستذبل يا فؤاد
كعيونها. ويح الرمال
كيف احتوتا، و الوجود
قد كان يصغر أن يضم حبيبتي لما أراها
خرز القلادة أفق نجم فوق نهديها تناهى
أو دورة القمر الذي قد شع محترفاً فتاها
أين الشفاه العابقات كما الزنابق في رباها؟
و رداؤها العربي حين تخيطه ليلاً يداها؟
يا ليتني مسرى الخيوط و إبرة حملت شذاها
أين العيون الحاملات
ضوء المسارج حين يغرقني سناها
أين الشفاه العابقات؟
بالطيب و الجمر الشهي المثقلات
بالنار و العطر الذي هيهات تحمله الورود
في كل غابات الشمال أو الجنوب
أواه يا موتي. و قبل مماتها ما قلت آها
فيم البقاء و عالمي في قبرها الرملي تناهى
قال الصحاب غداً سنبحر فاستعد إلى القلوع
فأجبتهم: كل البحار
بحدود قبر عبر هاتيك القفار
الرمل يرضع شعرها و يمص أيامي العِذاب
يا ليت أعماقي تراب
بدل الرمال العابقات على ثراها يا رفاقي
في البحار
أمس كرهت الرمل و هو لظى و نار
و اليوم أحببت الرمال
العابقات بعطرها و كرهت محار البحار
و العطر. كل جواهر الدنيا و أعناق النساء
فحبيبتي ماتت و لو أن الحبيب
محارة لسكنت أعماق البحار
لو أنها نجم لكان الليل أجمل من ينابيع النهار
ليس الجفاف بأن تعيش مع الجفاف
إن الجفاف بأن تعيش بلا حبيب
و الأرض لولا الحب قبرٌ من جليد
ويح الحِمام
أيكون بطن الأرض أحنى من ضلوعي
و الحجار؟
و لِمَ البقاء و كل شيء للفناء؟
العطر و الضحكات و العبث المحبب و الهناء
ضوء النجوم من العيون الحالمات
تحت الثرى. و من الشفاه الذابلات
عطر البنفسج و الورود العابقات
ويح الحياة
تعطي القليل لتأخذ الشيء الكثير
من رحلة العمر القصير

مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١

بحاري الحبيب، يبدو أن مذكراتك تزورني بتاريخ حاجتي إليها، فها أنت تسهب في الرثاء في أيام ألطم بها على الأحياء، و أحاول فيها تفجير عيون أُخَر من وجهي الصحراوي، ثم تُدفن الأشياء في الجسد النابض حالما يُدفن الجسد الهالك في بطن الأرض

كيس حناء
علبة بخور
مشط عاج
سوار من لؤلؤ
ثوب رش المطر

تؤدي العطور طقوس الحياة الأليفة لتستعيد دواخلنا رهبة الحضور؛ مخاضه الوسواس، و ولادته الإيمان، و لفيفه الصمت، ثم نحتجب وراء الطبيعة و نرسل ملابسنا بشتى المقاسات و الألوان لتمثل واجبات المجتمع و قوانين البقاء

بحاري نحن لا نموت، و لكن نتوارى تحت الثرى




نظرية المعرفة، مع طفل

أولاً سنذهب لنأخذ مونيكا من الكنيسة
ما هي الكنيسة؟
هي مسجد المسيحيين
إذاً الهنود يذهبون إلى الكنيسة؟
الهنود المسيحيون يذهبون إلى الكنيسة يوم الأحد و الهنود المسلمون يذهبون إلى المسجد يوم الجمعة
هل نذهب إلى الكنيسة؟
لا، المسلمون يذهبون إلى المسجد، و المسيحيون إلى الكنيسة، و نحن مسلمون
و الذي يصلي في بيته؟
كل الناس يصلون في بيوتهم
ما يصير نصلي بالكنيسة؟
لا، لكن يصير تدخلها
أريد أن أدخلها
سنزورها يوما
يمكن ما تتذكرين
ما راح أنسى
و إذا نسيتي
أنت ذكرني
شلون ندق عليك؟
قل لأمك و هي تذكرني
ما هذا؟
أين؟
هناك فوق، باللون الأحمر
مكتوب: الله
الله يقعد فوق السطح؟
(صمت)
هذي الكنيسة؟
لا، هذا مسجد
...... هذي الكنيسة؟
لا هذا مسجد

الافتتاحية السعمرانية


لقد أجادت اليوم أول نخلة عندنا بسعمرانها، و الذي عادةً ترطب نصف ثمرته بينما يظل نصفها الآخر أخضر. علماً بأنها النخلة الوحيدة التي تنتج السعمران عندنا حيث أن نخلنا كله برحي، و نسميها نخلة حميد نسبة إلى زارعها

أما باقي النخل، فتمت إزالة الشبك عن ثمره اليوم و غسله و هو ما يزال مزيناً النخلات كأقراط الزمرد. لطالما شاهدت قصة النخلة ، و لكني في هذا الموسم أود أن أشارك في جنيه و تجفيفه و كبسه

المجتمع المحافظ


لقد استعرضت في سلسلة قصة الخَلق تكونات المدينة الكويتية المختلفة، مع عدم التزامي بالترتيب التاريخي لتأثري بخريطة الواقع الغير خطية، و وضحت فيما طرحت جزءاً من تفاعل الشعب مع التغيرات العمرانية التي حدثت من ذاك الزمن القريب الغريب، إلى الواقع الحاضر و الذي يلعب فيه "التخطيط" و "الأحداث" التي مرت بها الدولة دور السبب و النتيجة على حد سواء

أما الآن، فأنا أتمشى في الديرة التي أسمع الكل يتذمر منها، و من ساكنيها و من سوء إدارتها، فأراها غاية في الأداء الحضاري، و قد أثبت سكان مدينة الكويت من العرب و الهنود و الباكستانيين و البنغالية أنهم يعرفون كيف يعيشون. و الدليل وجود عناصر الأداء التكافلي لحركة الحياة في هذه المنطقة المهمة مثل
- تخصص النوع التجاري للشوارع
- فرز المباني قبل هدمها و النفايات و الاستفادة من هذه المخلفات
- محاولة تقليل المسافة بين مكان العمل و السكن لتقليل المواصلات
- استعمال مركبات النقل الجماعي لتقليل الضغط المروري و التلوث و مصاريف التعبئة
- التجمع في الساحات، و استعمال كل ما توفره المدينة من مرافق عامة، و التنزه العائلي على شواطئ البحر
- غسيلهم منشور على واجهات المباني فلا توجد أسوار تمنع حياتهم عن الشارع
- استغلال المساحات المتوفرة للسكن و الإيمان بالتطور البطيء لا هاجس الطفرة
- شبكة المندوبين و الفراشين في القطاع الحكومي و الذين يشكلون البنية التحتية لسير الدورات المستندية و توجيه المراجعين
- حراسة مباني الدولة و أرشيفاته
- تنظيف الشوارع و المرافق العامة

و في زيارة إلى حلاق لاهور قبل سنتان و الذي أشاد بالكويت و شعبها الذين عدد لي بعض القديمين منهم بحكم سنه، جلس معنا سائق شاحنة لاهتمامه بأمر السائحة الكويتية في مدينة الكويت فكان يجيب على ما كنت أطرح من أسئلة و يشير إلى أن مشكلة الكويت هي في إداراتها و تعاملها مع بعضها البعض حيث أن كل شيء يُحل بالتداول السلس ضارباً لي أمثلة في معاملات السفارة مع الحكومة، ثم و إثر سؤالي له عن هدم هذه المباني التي يعملون و يسكنون بها و التي هي عادة من مباني الستينات أعربا هو و الحلاق عن استيائهما من إهمال البلدية و عدم اهتمامها بذلك، قائلاً بلغته المختصرة و الواضحة لقلة المرادفات أن المدينة القديمة هدمت، و الآن المدينة التي كانت جديدة صارت تهدم، ثم لن يعرف أحد التاريخ؛ شعرت و هو يقول ذلك بأن المدينة تتكون و تسير على محو ما سبق، كصفحة بيضاء نرسم و نمحو بها حتى صارت رمادية.

سائق الشاحنة و الذي علمت بعد ذلك أنه خريج علوم سياسية من جامعة نيودلهي، حاله كحال العديد من أصحاب الرأي و النظرة الواعية بشأن مدينتنا، فلا أنسى كلامه حين قال: إننا عشنا في هذه البلد و نشعر بالانتماء له رغم ما يظن بعض الكويتيين عنا بأننا نخرب منظر هذه المدينة من وجودنا بها. هذه "النظرة" التي قال بها فسرت عدم رغبة الجزار بالحديث معي، و عدم تعاون الحمالي أيضاً أو تجمع بعض الأفراد لسؤالي إذا كنت من البلدية أو إذا كان المبنى الذي يسكنون به سوف يُهدم قريباً.

ثم نطلع من باب السور، إلى مجتمعنا المحافظ الذي لم يحافظ إلا على ثقافة السور، و حتى في هذا نسي أن السور كان يحيط بنا جميعاً. فمجتمعنا لم يحافظ على المدينة القديمة رغبة في التغيير و كانت الرغبة في مساحة من الأرض واضحة، ثم تغيرت رغبات الناس، و تغيرت معها الحال المعيشية فلم يعد البيت إلا للإيواء و لم يعد التوزيع الفراغي مهماً بقدر التوزيع الجغرافي على الخريطة و ذلك ليس بالضرورة من أجل القرب من مكان العمل، حيث أن بيت الأسرة الكبير عند الكويتيين أهم شأناً من مكان العمل.

عندما هُدِمت البيوت القديمة مع بداية الستينات، ضربت العادات و التقاليد عرض الحائط فنسيج المدينة العمراني القديم هو أساس لسلوك و عادات معينة و انعكاس لها، فإذا غاب الأول غاب الآخر، ثم بعد فترة من الانفتاح، تلتها حقبة بائسة من أزمة المناخ إلى الغزو العراقي، بدأ فيها الناس الحنين إلى ماضٍ هدمت أبعاده، و بدأت فيها نزعة المحافظة و لكن المحافظة على ماذا؟ و كيف؟ فغرست أعواد من الحديدعلى واجهات إسمنتية للإيحاء بالچندل القديم ،و بنى البنّاء الثمانيني و التسعيني بنية عمرانية من الدين كما حيك على المغزل ثوب الإمبراطور و قيل يجب أن نحافظ عليه و نسلك سلوكه و نهجه.

فتطورت هذه البنية و تعالت في البنيان حيث أن ساكنيها كثيرون، و على أساسها سمي مجتمعنا بالمحافظ، و نحن فعلاً لم نحافظ على المباني القديمة، و لم نحافظ على مدينة الستينات، و لم نحافظ على الدستور و لا المال العام و لم نحافظ على الدين بما يحمل من تسامح و عملية و رفض للفرقة و الفتنة بين أفراد المجتمع، و لا حافظنا على حرية الاعتقاد و لا حتى على حياتنا الخاصة، رغم انتشار ثقافة السور*.

نحن مجتمع غير محافظ، و لكني لا أندم على شيء صار أو حتى على ما فعلتُ، و إنما أخجل، كخجل الألمان مما فعل هتلر و الذي يدرسونه في مدارسهم، نعم، يدرسون شعوراً، و الخجل لا يجعلنا نفتح صفحة جديدة كما الندم، و إنما يلزمنا بصفحتنا الرمادية هذه. و تظل قصة بلدنا تُروى كقصة الخَلق؛ قصة آدم و حواء التي كلما نسمعها ندرك أكثر أنْ إذا بدايتنا كانت خطيئة، فإلى الخطيئة حتماً سننتهي


*أقصد بثقافة السور هو أن قسائمنا في المناطق الحضرية الجديدة دائما يحيط بكل واحدة منها سور عالٍ يحجب الحوش و الناس عن الشارع و الفريج لأن ما هو خارج عن البيت في تخطيط دولتنا هو ملك للسيارة، و لذلك فلقد تغيرت ثقافتنا على أساس هذا التغيير في علاقة المنزل بالشارع

نشيد الصيف

تبدلت زخارف الستار
و تبادلت نهاراتي الملل
أنا الخائف و ما من دثار
أنا البارح و ما من مقر
أُسمّي أشيائي الصغار
و أتلو صلوات المقل
ردِّ لي يا نهايات المدار
وهج ماضٍ تفانى لفِكَر
و انشري في قلبي المحتار
شِرعة العيد من شعائر الأمل
شعري هنا في رحم الخمار
يرتجي إلى النور سفر
و رسولي إلى هير المحار
نام في البحر رحل
كيف أشكو من فيح النهار
كيف أشكو من لطف القدر
قد توارى عن ناظري السمّار
و استويت إلا من بعض الطلل
يوم زارني عازف المزمار
و على أرضي الدمع انتصر
غنى و نادى أيا ساكنين الدار
أنا الحَرور، أنا أهوى بلا خجل

و اباتعلم لعبة الشبان

مع دهشة الجميع لاهتمامي المفاجئ بالكرة، و التي عدلت عن متابعتها منذ ١٩٩٨ - ربما أفريقيا هي السبب، فأنا أظن أن مكان اللعبة يؤثر كما أني أهوى حساب الاحتمالات - أسجل هنا توقعاتي
> مع أن الأرجنتين ممكن أن تغلب ألمانيا، إلا أني أتمنى الفوز
لألمانيا، إلى الكأس
مع أني أتوقع للبرازيل الفوز على نيذرلاند، إلا أني أتمنى لينذرلاند الفوز على البرازيل<

كما يلاحظ الجميع، هناك فريق من جنوب أمريكا في كل مجموعة، مما يجعل لها سيطرة كبرى على كأس العالم، باستثناء دخول غانا هو تحدٍ بين أوروبا و أمريكا الجنوبية. واضح أنني في صف أوروبا و ذلك تشجيعا لكفاحهم و شجاعتهم في مواجهة هكذا أنداد، و لا أنكر تقديري و احترامي لشعب أمريكا الجنوبية

نحيا، ليس إلا

أراك عصي الدمع
شعر أبو فراس الحمداني
لحن رياض السنباطي
غناء أم كلثوم ١٩٦٤



عندما أبث جسدي إلى الورق و أصُفّ بين ثنياته أعضائي، و أصير كتاباً بائسا كالشعر المترجم إلى العربية

عندما نبتعد، تفاصيل أحلامنا تزداد، و واقعنا يتجرد و المرادفات تتكاثر على هامش النص

كانا معاً في المطبخ، الأخ الأكبر أخذ الملاعق من يد أخيه و ذهب راكضاً ليعطيها أمه، بينما وقف الأصغر ذاهلاً، ثم احمر وجهه و بكى حانقاً، سألته عما يريد، فنظر إلي و بكى أكثر، و رمى نفسه أرضاً بقوة. فتحت خزانة البهارات و قربت إليه علبة الكمون ليشمه، فأسكتته الرائحة الجديدة على حاسته

أتفاءل بالرطوبة، ففيها محاورة أصلا الحياة، و عنصرا المدى: الماء و الهواء

اليوم هو أطول نهار في السنة، تقصر النهارات بعده و يطول الليل

حوار شبه مكرر

ـ ما يخالف انتي أول ما تشتغلين راح تحسين بالكآبة، بعدين تتأقلمين
ـ بس أنا مو حاسة بالكآبة، يعني شعوري أقرب إلى الدهشة
ـ أنا أول ما اشتغلت توني متخرجة من الجامعة و حاسة إني راح أغير و أعمل ثورة، كنت كل يوم أرد البيت أبكي، لكن مع الزمن خلاص تعودنا
ـ ابتسامة
ـ فإنت لا تزعلين و لا يضيق خلقك، مع الوقت راح تتعلمين إن هالمكان الفساد فيه من أول ما بدأ، و لا راح يتعدل، لأن كل من حاول يغير و لا فيه فايدة
ـ بس أنا مو زعلانة
ـ هني صاحب الضمير الحي يستقيل
ـ عندك خريطة مدينة الكويت؟