مذكرات بحّار

المذكرة العاشرة

البحر أجمل ما يكون
لولا شعوري بالضياع
لولا هروبي من جفاف مدينتي الظمأى و خوفي
أن أموت
عريان في الأعماق أو في بطن حوت
إني أحاذر أن أموت
لما أفكر أن لي بيتاً و لي فيه عيال
لما أحس بأن في الدنيا جمال
يا أيها الفجر المشع و يا أصائل يا ليال
الشمس في الآفاق كالإيمان في قاع النفوس
و من القلوب المؤمنات
بالأرض و الإنسان تنبثق الحقيقة و الحياة
زرقاء صافية كعين حبيبتي عند اللقاء
كالفجر كالأمواج حين تنام كالأفق المضاء
و كما يشع النجم في كبد الظلام
يأتي الربيع من الشتاء
و غداً ستمطر غيمتي. و يذوب في الرمل الصقيع
و المجد للأسرار في القلب العظيم
و إلى المحبة للجميع
و إلى الربيع
في كل أرض في الشمال أو الجنوب
و المجد للمحار في كفي هدايا للعذارى الطاهرات
الحاملات جنين إنسان الحياة
القارع الأجراس في ليل الطغاة
يا بحر يا محار يا سحر الأصائل يا غداة
آمنت أن غداً سيشرق في بلادي و الحياة
ستدب حتى في الرمال
و من التشرد في البحار
سيشع في روحي النهار

مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١
بصوت الشاعر

بحّاري الحبيب؛
ليتني أستطيع أن أومئ رسالتي إليك، فأنا في هالة من الأمية و العجز. إن الصبر كظم يلي أو يسبق مصاب سوء و يناسب مصاب بعد، و أشده مقترن بالقتل، فالمصبور هو المحبوس بنية قتله، و هو يخط عبر الزمن مشوارين متوازيين أحدهما لليأس و الآخر للأمل. بحّاري الحبيب، مازالت البيوت تُهدم، و عيالك اعتادوا الرحيل، حتى من أنفسهم. أتمنى أن ترجع سالماً لتراهم.
يتوالى مُخاض المحّار فلا تكون اللؤلؤة، و أستمر في دعائي للبحر لعله يتوب، و للسماء لعلها ترحم

المذكرة التاسعة

لا، لا تقولي رحلتي كانت طويلة
ما زلت أذكر كل شيء عنك يا طيبة الجميلة
إني دفنتك في فؤادي
بين أضلاعي العليلة
لا في التراب. و قد أجسك حين أمسك
كل شيء في جواري
القرط يحمل ليل شعرك و المواقد حرَّ ناري
حتى ثيابك لا يزال عبيرها عبقاً بداري
صندوقك الهندي ذو الأصداف و الحق الصغير
قبران لي و لقلبي الدامي الكسير
يا للملاءة و العباءة غيمتان
في أفق أيامي و ما أحلى السواد
لما يوشحها، ستذبل يا فؤاد
كعيونها. ويح الرمال
كيف احتوتا، و الوجود
قد كان يصغر أن يضم حبيبتي لما أراها
خرز القلادة أفق نجم فوق نهديها تناهى
أو دورة القمر الذي قد شع محترفاً فتاها
أين الشفاه العابقات كما الزنابق في رباها؟
و رداؤها العربي حين تخيطه ليلاً يداها؟
يا ليتني مسرى الخيوط و إبرة حملت شذاها
أين العيون الحاملات
ضوء المسارج حين يغرقني سناها
أين الشفاه العابقات؟
بالطيب و الجمر الشهي المثقلات
بالنار و العطر الذي هيهات تحمله الورود
في كل غابات الشمال أو الجنوب
أواه يا موتي. و قبل مماتها ما قلت آها
فيم البقاء و عالمي في قبرها الرملي تناهى
قال الصحاب غداً سنبحر فاستعد إلى القلوع
فأجبتهم: كل البحار
بحدود قبر عبر هاتيك القفار
الرمل يرضع شعرها و يمص أيامي العِذاب
يا ليت أعماقي تراب
بدل الرمال العابقات على ثراها يا رفاقي
في البحار
أمس كرهت الرمل و هو لظى و نار
و اليوم أحببت الرمال
العابقات بعطرها و كرهت محار البحار
و العطر. كل جواهر الدنيا و أعناق النساء
فحبيبتي ماتت و لو أن الحبيب
محارة لسكنت أعماق البحار
لو أنها نجم لكان الليل أجمل من ينابيع النهار
ليس الجفاف بأن تعيش مع الجفاف
إن الجفاف بأن تعيش بلا حبيب
و الأرض لولا الحب قبرٌ من جليد
ويح الحِمام
أيكون بطن الأرض أحنى من ضلوعي
و الحجار؟
و لِمَ البقاء و كل شيء للفناء؟
العطر و الضحكات و العبث المحبب و الهناء
ضوء النجوم من العيون الحالمات
تحت الثرى. و من الشفاه الذابلات
عطر البنفسج و الورود العابقات
ويح الحياة
تعطي القليل لتأخذ الشيء الكثير
من رحلة العمر القصير

مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١

بحاري الحبيب، يبدو أن مذكراتك تزورني بتاريخ حاجتي إليها، فها أنت تسهب في الرثاء في أيام ألطم بها على الأحياء، و أحاول فيها تفجير عيون أُخَر من وجهي الصحراوي، ثم تُدفن الأشياء في الجسد النابض حالما يُدفن الجسد الهالك في بطن الأرض

كيس حناء
علبة بخور
مشط عاج
سوار من لؤلؤ
ثوب رش المطر

تؤدي العطور طقوس الحياة الأليفة لتستعيد دواخلنا رهبة الحضور؛ مخاضه الوسواس، و ولادته الإيمان، و لفيفه الصمت، ثم نحتجب وراء الطبيعة و نرسل ملابسنا بشتى المقاسات و الألوان لتمثل واجبات المجتمع و قوانين البقاء

بحاري نحن لا نموت، و لكن نتوارى تحت الثرى




المذكرة الثامنة

مازلت أذكر كل شيء عن مدينتنا القديمة
عن حارتي الرملية الصفراء و المقل الحزينة
لما نحدق في السماء على السطوح
نضبت جرار الماء و الغدران مثل يد البخيل
محلت فأمست كالقبور
مخسوفة سوداء تملؤها الصخور
و على الضفاف الغارقات
بالشمس و الرمل المندى و الضباب
وقف الصحاب
يترقبون سفينة الماء التي قالوا تعود
بالماء من نهر الشمال
فالأرض رمل و السماء
بيضاء صافية كنهر من جليد
هيهات أن تمطر. و يهتف من بعيد
نفر يبشر: أن صارية تلوح
كهلال مئذنة يغلفها الضباب
عبر العباب
و على ظهور جمالنا الظمأى تحجرت القراب
سوداء فارغة يغطيها التراب
كبطوننا
صلي إذن فالموت أقرب ما يكون
و الريح أغرقت السفينة و السماء
حقدت علينا يا أمينة
صرخات طفلك في الظلام أتسمعينه؟
نهداك ملؤهما الحليب و أنت ظمأى ترضعينه
في بيتك الطيني قابعة حزينة
تتساءلين عن السفينة
و عن السحاب و عن رفاقي في المدينة
و الأفق صحو و النجوم
زرقاء تبرق مثل أقراط ثمينة
و تثور عاصفة كأن قوى الوجود
سمعت أنينك فوق أرض لا تجود
إلا برمضاء الرمال و بالدماء
و الجوع و الجدري يفتك بالصغار
ضحكاتهم في الليل تبرق كالنجوم و في الصباح
يتساقطون كما الزنابق حين تعصفها الرياح
و كما تنير الشمس أعماق الكهوف
إيماننا بالأرض ملء قلوبنا رغم الجفاف
نحن الرجال
نحن العطاء إذا تعذرت الحياة عن العطاء
و في السماء
الجنة الخضراء و المطر الذي يروي الحقول
لا في القصور الشامخات
أو في خزائن أغنياء مدينة إسطنبول و روما
البعيدة
تلك التي شبت بها النيران. أبرقت السماء
عيناك تحت ضيائها الفجري تشرق يا أمينة
مثل الشموع
و الريح كالراعي الذي ألقى عصاه
لينام خلف الأفق. و البرك الحزينة
بدأت تفتح مثل أفواه الجياع
مثل البراعم حين يلفحها شعاع
حتى خليفة جارنا الأعمى تحسس أن أمطاراً
ستهبط يا أمينة
هل تسمعينه؟
هل تسمعين عصاه تقري السلم الطيني
تبحث عن مداه
فالسطح يزخر بالمياه
و البركة الجوفاء فارغة كبطن الذئب تبحث عن
غداء
أختاه أمطرت السماء
و ذكرتُ قصة من تمرد ضد طاغية عنيد
في ذلك الماضي البعيد
فتألبوا كي يقتلوه
و تساءل الملك الذي في كفه أمر المدينة
عن ميتة أقسى من الموت الذي قرروه
فرموه في الصحراء حيث رؤى السراب
كالماء يبرق في مهاويها الرحاب
و يروح يركض ثم تنبجس المياه بكل خطوه
فإذا الرمال الصفر ربوه
خضراء تملؤها الأزاهر و الطيور
و بكوخه عند الغدير
جلس المشرد كالنبي ليكتب الكتب الكثيرة
عن رحلة الإنسان فوق الأرض و الدنيا الأخيرة
عيناه ينبوعان من نور و جبهته ظهيرة

مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١

بحاري الحبيب، وسوست لي ما يكفي عن هاجس المطر. عن مكاتيب تنشف ريق قارئها و قرابين كُثُر. بحاري عطاؤكم بعيد، عطاؤكم بعيد. و هأنذا أكتب في اليأس. ظننت مدة أنني من بُعدك أتأذى و لكن يبدو أنك من محاولات وصلي تتعذب. فكفانا إيماناً بالمدى و لنقل قد كان سراب. و لتعد البسمات إلى عين الشمس كسنون طفل وسيم

أبرقت السماء، فرسمت بالضوء خرائط مدينتنا؛ قصوراً فوق البيوت و شوارعا فوق السكيك و دكاكين تُباع و تُشترى.. ما فيها أحد، فأنت هناك، و لقبك الآن "كان". و لهذا ينظرها الناس من بعيد، مدينتي، و يظنون فيها الحياة لكن فيها تدور عذراء الموت تجمع أشياءنا في ساحة رملية و تصلي للمطر حتى تكتمل المائدة

بحاري غشتنا الصدفة بمكاييل الرؤية، و شكهم بقوى الخيال بدأ يفنيني شيئا فشيئا



المذكرة السابعة

كصرير أبواب القلاع
في الفجر كالآهات في ظلمات قاع
كدوي رعد فوق مقبرة بعيدة
كرنين أجراس عتيقة
أصواتنا فوق السفينة حين نبحر. و النهام
كغراب حارات قديمة
يشدو بألحان حزينة
للبحر و المحار: أبحرت السفينة
و غداً نعود لكم أحبائي على شاطئ المدينة
حاراتكم فوق الرمال و نحن في ليل البحار
ضوء النهار نصيبنا منه الظهيرة و الجُثام
و من الشموع دخانها، صوت النهام
قيثارة بحرية ألواحها الثكلى عظام
من صدر مسلول: تعالي يا حذام (١)
قد قلتِ صدقاً ليس يفهمه الأنام
بيتي أحب إلي من قصر يقام
في وسط مزبلةٍ. تعالي يا حذام
و يظل ينهم ثم يبكي. و المجاديف الطويلة
تحت الضلوع الناتئات
تحت البطون الخاويات
رفسات عفريت تخبط. و البحار
فيها العجائب. مهد طفل من حجار
قبر بلا لحد. عراة يغزلون
إكليل عرس. سندباد
تحت المياه يعيش كالأسماك. سقراط الحزين
و الكأس و القمر الجميل
كالبيت يسكنه. حفاةٌ يصنعون
نعلاً من الفيروز غابات مخيفة
للنجم و الأقمار. مقبرة كبيرة
أمواتها يتحركون
و يدي و مجدافي و صندوقي العتيق
هم عدتي في البحر يا وطني الحبيب
يا أيها الرمل المعطر بالدماء
يا موطن الصياد و البحار يا خبزاً و ماء
أصواتنا فوق العباب وراء هاتيك القلاع
كصرير أبواب القلاع
كدوي رعد فوق مقبرة. كأجراس عتيقة
في الليل تقرع. و السفينة
وسط العباب
"كسدوم" أو "روما" التي شب الحريق
فيها ليطرب ذلك المجنون. يا ريح البحار
نام النهام و في الصدور
مات التشبب و الحنين
مثل البراعم
أوراقها يبست عليها. و الحناجر قد تموت
إلا الأغاني سوف تخلد يا بلادي. يا رياح
سيكون بطن الحوت قبري. و الحياة
قد تنتهي إلا العذاب
يبقى كما تبقى الطلول
بعد الزلازل. فالمهود
مثل القبور
و الشمس تغرب مثل حسناء تموت
و البدر يذبل مثل قنديل تكسر. و الجبال
تنهار كالجدران. حتى الأرض تقلقها الزلازل
و الرياح
إلا البحار
تبقى لتبتلع الجميع
كالحوت حين يجوع يا طوفان نوح
يا حكمة الدنيا القديمة
في البدء كان البحر لا الكلمات، يا تلك
السفينة
أبناء "نوح" فوق متنك يبحثون
عن ساحل و أنا أفتش عن محار
ذهب الغراب و لن يعود
إلا غرابي عاد كالمطرود في وضح النهار
كرسالة سوداء يعلوها الغبار

مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١

بحاري الحبيب، باسم الصوت أبدأ كما بدأتَ، كما عزفت بعد الكاف، عن قلعة حاكم سكان المقبرة، هم تحت الأرض يزرعون نعلاً لا تمشي. و ينظمها إيقاع أجراس عتيقة نسيت مواعيدها. جدرانها الريح، جدرانها خمار حسناء تموت كل يوم تحت قنديل تكسر. حسناء من نار خَلْقُها تتمنى أن تكتب رسالة لا تحترق أو تسمع لحن جنازتها قبل موتها. أزورها كل يوم أجمع العظام لعلي أستطيع أن أصنع منها قيثارة أورفيوس العجيبة، لكن الضلوع تتنافر حسب اعتيادها العنيد، فأعتذر منها كل يوم على جهلي و قلة حيلتي، و لكني أعدها بالعودة في غد آخر، لعل الضلوع ترضى بمسافة أقرب

بحاري الحبيب، هو لحن صناعة اللحن ما أسمع

(١) إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام

المذكرة السادسة

تحت الفوانيس المُشِعّة كالنجوم
السور يبرق مثل خط النار. يا ليل الهموم
ستذوب في حدق العيون الساهرات مع النجوم
الحاملات الماء في جراتهن، و في الشفاه
ظمأ الصيام؛
غداً "التتار" سيدخلون مدينتي. أين الرجال؟
عطري سأنضحه على قدم تسير إلى القتال
و ضفيرتي السوداء أغزلها حبال
لسفينة في الليل تبحر بالرجال
هبّي شمال
يا انت يا ريحَ البحار
هُبّي شمال
"للقصر" حيث رجالنا الأبطال. يا وهج
الرمال
يا نار صحراء الجنوب
و أنا وراء السور أسمعها. فأشعر باللهيب
و النار في رأسي تعربد. أين تجار الحروب؟
أين الذين يشوهون الأرض بالدم و الدخان؟
أين الملوك و أين عنتر يا جبال
الكل فان
إلا الحقيقة و الرجولة يا بلادي. و الزمان
أبدا يدور
و المجد و التاريخ للشمس السخية و البدور
و إلى الخنادق يا حِراء
يا خندق الأبطال في الماضي القديم
"الشمري" على الجواد
و القصر تحت الفجر يبرق مثل فجر من رمال
أقوى من الإعصار يا وطن الرجال
و على الجزيرة
بطلٌ أقلّته سَبوحٌ فالعباب
واحات أعناب تظلله. و تبرق من بعيد
سُفُنُ الرجال القادمين من المدينة
جاءوا إذن فالويل للمتلصصين القابعين
تحت الجدار و من وراء القصر و المتسللين
هاهم رجال مدينتي جاءوا على متن العباب
صوت المجاديف الطويلة مثل السنة تقول؛
لا شيء غير الحق. و الأفعى تموت
في البر أو في البحر. و السم الزعاف
كأس الذين بنوا المعابد و القصور على الدماء
جاءوا إذن. فحفيف أشرعة السفائن مثل
أجنحة العقاب
فوق العُباب
الفجر تحمله السفين. فيا شمال
هُبّي سرعا. فالغزاة
ملأوا الصحارى و الوهاد
مثل الجراد
و الفجر أقوى من كهوفهم العميقة. و الحياة
و المجدُ. للإنسان. فاصدح يا هزار
هُزِم التتار
رجل البحار على سفينته و في يده منار
من نور عينيه يُضاء كما النهار
خاض المعارك بالمعاول و الفؤوس و بالحجار
و المجد للإيمان في صدر الرجال
لسفينةٍ رجعت كأن شراعها العالي هلال
و السور تحت الشمس يبرق كالسوار
في جيد حسناء يباركها النهار
مات التتار
يا إخوتي الأبطال قد مات التتار
و البدر يشرق في سواحلنا كلؤلؤة كبيرة
كرسالة بيضاء تحملها النجوم
لعيون موتانا على تلك المفاوز و التخوم

مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١

بحاري الحبيب، قرأت مذكرتك هذه منذ أسابيع، أيام كنا صيام، فلم أستطع رداً، و ما أدركت لك قولا غير صلاة العيون على المدى الضوئي. هبّي شمال! و أراقب الحظرات تتتابع أمام عينَيّ. هبّي شمال! و يرحل الحدّاقة بينها في هدوء.. و خيط الميدار الذي شار بين عصيها يرنو لخط الأفق و يجمع حوله القصيع من وقت لآخر. أتقصد بالسور الحظرة؟ أم هي القصر، و السور هو الأفق؟ يالسذاجة الرموز

أيُّ نارٍ بحاري و نحن في أرض الماء؟ فلا ند لأرضي سوى الرمل و السماء. و نحن بين أنداد الطبيعة نتوازى، تُعَمّرنا الرمال فتهدمنا السماء و يغنينا البحر فتُشقينا الرياح، فهذا يغلب ذاك حتى إذا اختلّت موازين الأسماء و تداخلت المعاني فهمنا أن ما الأفق المهيب حولنا إلا خطاً من نور يعيد تسمية الأشياء فتصير السماء بحراً لتقترب منا أكثر و يصير البحر رملاً ليثبت أقدامنا ثم يحتال الرمل ريحا ليقتلعنا، كخطوط التاريخ تتغير فيها الأسماء لنظن اختلافها، و لكنها مجرد حاجة لتحريك ساكن أياً كان السبب.

بحاري أنت تعلم و هم لا يعلمون، أنت تعلم أننا جميعا آخرون


المذكرة الخامسة

عندي خُمور
عندي عُطور
عندي بَخور الهند يا تجار مكة يا ملوك
عندي القلائد و الأساور للجواري و النساء
من يشتري أفراح بحارٍ يعود مع المساء
الشمس في عينيه ماتت مثلما مات العبير
و النور في بيت خلا لولا حصير
و فتيل مسرجة كأهداب الضرير
لِمَ تُنبت الأرض الزهور
و عظام موتانا بها؟ أين الحبيبة؟
ماتت من الجُدَريِّ طيبة
من يشتري كل المَحار؟
من يشتري كل البِحار؟
بعيون طيبة يا نهار
قد أطفأت عينيك عيناها فحاربْتَ الضياء
أين الضياء؟
بعيونها، أين انطلاقات الضفيرة؟
و وميض مَفْرِقِها كخطٍ من نجوم
في ليل أيامي الحزينة، أين أفراح اللقاء؟
لما أعود و ملء أعماقي كآبات المساء
أين الضفيرة حين أنشرها كليل من عبير
مثل القرنفل؟ أين ضحكتها الحزينة
لما أعود من البحار إلى المدينة؟
أفراح عينيها تُذيب بي العناء
و لقاؤها. أواه ما أحلى اللقاء
من غير وعد فالدموع
تهمى مع الفرح المُغنّى في الضلوع؛
أحبابنا دخلوا المدينة
يا ليت أهدابي شراع للسفينة
غداً القلوع
أمس رسونا و الرحيل غداً. و مالي من رجوع
غنيت أمس للعيون و للورود على الخدود
غنيت أمس لمن أحب و همت في ليل البحار
لأعود ثانية لها. و معي الهدايا للصغار
و اليوم حاربتُ الظهيرة و النهار
شمس بلا أقمار عينيها ظلام
إطفِ الشموع
فعيون طيبة كل ما حَوَت الشموع
و الكل وهمٌ و الحياةُ إلى الفناء
أبوابنا غُلِقت كمقبرة فأمطرت السماء
بالموت و الُجُدَرِيِّ أمطرت السماء
بيتي تهاوى مثل أضلاعي و مات به العبير
حتى الحصير
لم يبق منه الداء شيئا يا حياتي يا فناء
أيامي الأولى و يا طيبة الجميلة
عيناك تحت الأرض تُبرِقُ لي كفانوس بعيد
يُومي إلىَّ. أكاد ألمس مِن هوىً عرق الضفيرة
مذ كنتِ عند البئر تحت لظى الظهيرة
يا قرطها الذهبي يا كُحلَ العيون
يا طيب مَبخَرةٍ يغازلني الدُخان
فيها فثوبي من روائحها يضوع
يا حِقها الوردي يا صندوقها تحت الشموع
و إضاءة الأهداف في الأخشاب مِن صُنع الهنود
يا ثوبها يا ردنها المعطار حين تلفّه لما أعود
عطر البنفسج تحت نهديها و في فمها الورود
يا شهرزادي في البحار
أروي حكايتها لروحي. الوداع
فأنا سأرحل. أصدقائي و الشراع
في الشاطئ النائي. سأرحل فالوداع

مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١

تتذكر، و أتذكر و مالي من ماضيك بتذكار و إنما هذا حال التاريخ يملي علينا الأحداث أشكالا فأكاد أكون رأيت. أنا ما رأيت و لكني عكست التاريخ من كلماتك صوراً و مددت من عمري إلى قبل هذا العمر لكي أُتْبِع فيه أوراقك الخاصة و غوايات الضفيرة. بحّاري لا تنادي فأنت في دار الصدى؛ متوازيان برٌّ و بحر، لا تنادي فقد تعشق ذاتك، أو تناديها فتُنكِر ذاتك. هي في الثوب المشجّر و علامات الطُّوَف، هي في صوت الصباح، هي في المكحلة و المبخرة و الصندوق و جميع تماثيل الأنوثة. هي حولك و أنت فيها، لا أراها توارت في الثرى طيبة. حسها في صيحات أطفالك و لونها صَبَغَتْ به يديك، و شفتيها تقاسمتها الشموس فقُبلةٌ في كل حين

إرحل حبيبي فكذا عهدتك راحلا، لكن لا تأمنن الرحيل فقد يجرّ رحيلا

المذكرة الرابعة

أنا ما رأيت
لكنني ما زلت أذكر نار موقدنا بمنزلنا القديم
و حديث والدي الضرير عن الحياة
و عن الحروب. حروبنا ضد الغزاة؛
الأرض قاحلة هنا حتى الذئاب
تخشى ظهيرتها. و لكن الملوك
و الترك و الألمان و المتسللون
باسم الحضارة و الحماية. هؤلاء المدعون
كم حاربونا بالأساطيل الكبيرة. و الجنود
يترصدون شراع غواص يعود
كي يغرقوه
كي يقتلوه
يا قارب الصياد إياك التوغل في البحار
فالبحر مثل الأرض ملك الأقوياء
و الدر للحسناء نجمعه و نحن إلى الشقاء
و يروح والدي الضرير
يبكي و يسعل. و الدخان
يندس في عينيه في البيت القديم
و نروح نسأل المزيد؛
يا والدي ماذا رأيت؟
يا والدي لِمَ قد بكيت؟
و يظل يسعل ثم يجهش في البكاء
و يقول كنا! أقوياء
كنا أمام هجومهم مثل الرمال على العيون
مثل الظهيرة في بلادك يا بني
مثل المنون
أنا ما رأيت
لكن والدي الضرير
قد قال لي هذا بمنزلنا القديم
و أروح أسأل: ما الذي ببلادنا غير الرمال؟
و يجيب والدي الضرير عن السؤال؛
لابد للأظفار من شيء تمزقه. و مَن حَمَل
الحِراب
أبداً يفتش عن رقاب
و الأرض تمنح عندما تجد الرجال
أنظر. و يكشف والدي عن صدره الواهي
الضعيف
و أرى الندوب كأعين الموتى كأوراق الخريف
في صدره الواهي الضعيف
و يروح يلمسها كآثار قديمة
بأصابع مثل العيون
تفلي مكان الجرح. تعرف أي تاريخ حزين
في كل جرح. و الجراح
فخر الرجال
كالوشم في الحسناء. يا وطن الظهيرة و الرمال
الموت و الجدري أرحم من قراصنة البحار
و ذراك أرفع، و الجميع إلى الزوال
إلا النجوم
و الشمس و الأقمار و السور العظيم
يا نار موقدنا بمنزلنا القديم
ما زال دفؤك في عروقي مثل آثار الجراح
في صدر والدي الضرير
قنديل عينيه أضاء لي الطريق
و جراحه مثل الهوامش في طريق الشمس. يا
وطن البحار
يا عندليب الفجر يا عطر القرنفل يا سماء
الرمل أورق بالدموع و بالدماء

مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١


بحّاري يا نور عيني، تلطّف أرجوك على خاطري المُبْعَد الحزين، و تعال تلمّس رمال بلادي و تدفّى؛ هي جرح البحر القديم و في البحر لا يبقى جريح. الجرح مساحة للشك على أجسادنا و الجدران التي نعيش بينها، و البحر لا يقبل جريح.... لهذا كانوا أقوياء

يالها من دموع هذي التي تنحدر من مقل خلت من نظر، فبقيت لنا محض عيون نرتع منها الألم و نستدر منها عاطفة الشمس في أطلال نورها، لنذكر، و نتذكر، و نتذاكر، ثم نذاكر

بحّاري عيوننا المدهوشة على صدر والدك كعيون الشمس حارت على الرمال، فلابد أن نبني لنهتدي، لابد أن نبني لتهتدي شمسنا إلى ظلال و يهتدي الحبيب إلى عباة حبيبته. و عُد إليّ لنهرب بين الندوب إلى مكان فيه نختبي، إلى مكان فيه نلتقي بعيدا عن قراصنة الفلوس و عن حماة الأرض الذين لفّقوا كذبة الوطن..... ثم أبْحِر حبيبي عن كل شيء

فإذا ارتاح بومك، يرتاح البحر من الحياة

المذكرة الثالثة

أحلى ليالينا الليالي المُقمرات
حيث النجوم الغارقات
في الضوء كالأعراس في كهف مضاء
حيث السماء
في البحر ترسم عالما نشوان من نور و ماء
يجتثنا و يطير فينا في الفضاء
للحور. للجنات. للدنيا الجميلة
عندي حكايات لها من ألف ليلة
من شهرزاد و ليلها المخمور. ليل الحالمات
الشاربات الماء من شط النجوم
مثل التي كانت تغني للغيوم
فتصير نارا ثم تمطر. و الحياة
مملوءة بالسحر. حيث الساحرات
قد كن ربات البيوت العامرات
و نظل نحلم بالقصور. و بالدهاليز الطويلة
تلك التي قد صورتها شهرزاد بألف ليلة
و الدود في بطني يشاركني غذائي. و الوجار
خالٍ بلا قدر. و أسماك البحار
أكلت و نامت. و الصحاب
يتحدثون عن الموائد في القصور
و عن التي كانت تعطر خِدَرها المسحور من أشهى العطور
و عن الضفائر عندما تُطوى على نهدٍ و جِيدْ
و على سفينتنا القمر
يضوي و لا يُعطي كتنّور بعيد
كسفينة بيضاء عالية الشراع
أو مثل شبّاك مضاء
تحت السماء
و نروح نستوحيه كالشعراء نشكيه الهيام
حتى ننام
يا رب يا ملكا تعالى في سماه
يا أيها الأبدي يا نورا نراه و لا نراه
دعنا ننم. و بلا غيوم
و دع القمر
يضوي علينا و النجوم بلا مطر
نحن العراة المبحرين مع المخاطر و المنون
رباه لا تُمطر علينا فالزوابع و الرياح
تأتي مع المطر الذي يروي الأقاح
و التين و الزيتون في أرض الغجر
رباه إن الأرض تزهر بالمطر
لكننا سنضيع نحن و ينطفي ضوء القمر
و تهب عاصفة و يحتدم الظلام
و تذوب أنوار السماء و ينتهي حلم النيام
الساهرين مع القمر
و الشاربين الخمر من كأس السهر
و يطير قنديل و تضطرب السفينة
كضلوع مومسة تؤرقها خطاياها الدفينة
البحر ثار
يا أيها البحارة الشجعان إن البحر ثار
ألقوا الشراع
و ارموا إلى البحر الحمولة و المتاع
فالحوت و الأسماك جائعة. و أمطار السماء
هيهات تغسل حقد حوت. و الرجال
في البحر تُعرف ما معادنها. هضاب أم جبال
شدوا الحبال
و تعادلوا فالبحر يعرف ما الحرام من الحلال
و الريح ضد البحر و البحّار من ماضي الزمان
و نروح نقرأ بعض آيات الكتاب
فالموت في غرق عذاب
لكن تجّار السفينة هؤلاء يفضلون
موتي و موت الآخرين
و فناء كل الأرض. كل العالمين
كل الوجود. و لا يرون
أموالهم تُرمى لقاع البحر. تجّارُ البحار
أقسى علينا من رياح البحر و الحوت الكبير
و نروح نلعنهم كما لَعَن الكتاب
كفار مكة. و الذي سحَّ السحاب
أحنى علينا من جميع الناس. يا قمر السماء
عيناك أقوى من عيونهم المريضة. و النجوم
ستشع ثانية و تحترق الغيوم
و نعود نحلم بالجنان و بالقيان و بالدهاليز
الطويلة
تلك التي قد صورتها شهرزاد سميرةُ الملك
الجميلة

مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١


بحاري الحبيب، لا أدري بأي بحر في دنياك أغرق، أبَحر شِعرك المُفني كالنَّفَس الملهوف قبل الزّفرة، أم بحرك الطاغي الذي فيه تبحر و عن لآلئ الأميرات المنثورة فيه تبحث. في البحر تختلط البِحار فالآيات و الأحلام و الليالي والمال، أوه يا مال... كلها تلتحم بواو... بعد المطر، كل شيء بعد المطر و ستحتضنك الدهاليز بعد حضن الأفق البارد، و ستسمع المزيد من القصص عن تجار السفينة و عن الشبّاك المضاء، و عن التنّور البعيد...عندما تتنفس صخوري بحورك، أعِدُكَ بحّاري، بالوعود

المذكرة الثانية

الشمس فوق السور تشرق مثل قنديل كبير
تهدي خطانا مثلما كنا على ضوء النجوم
في الليل نسري عبر هاتيك البحار
أيام كنت أعيش في الأعماق. أبحث عن محار
لقلادة. لسوار حسناء ثرية
في الهند. في باريس. في الأرض القصية
أيام كنت بلا مدينة
و بلا يد تحنو علي و لا خدينة
إلا حبالي و الشراع
و يدي المقرحة الأصابع و الضياع
و الريح. و الأسماك في القاع الرهيب
غرثى تطاردني بعالمها الغريب
عن عالمي القاسي العنيف
يا بحر. يا قبرا بلا لحد. و يا دنيا عجيبة
أجتاز عالمها المخيف بروح بحار كئيبة
أبدا يغني للسواحل و العيال
يترقبون قدومه بعد المحال
و يعود من رحلاته كيما يعود
للبحر و الأسفار. و الدنيا كفاح
ضد المجاعة و الرياح
الجوع فوق الأرض و الريح الخؤونة في البحار
و تظل زوجته هناك بلا سوار
و بلا قلادة
في بيتها الطيني حالمة وحيدة؛
سيعود ثانية بلؤلؤة فريدة
يا جارتي سيعود بحاري المغامر
سيعود من دنيا المخاطر
و لسوف تغرقني هداياه الكثيرة
العطر و الأحجار و الماء المعطر و البخور
و لقاؤه لما يعود كأنه بدر البدور
و تظل تحلم و الحياة
حلم يجول بلا نهاية
و بلا بداية
و الشمس و الأقمار تشرق فوق كوكبنا الكبير
و أنا هنا في هوة الأعماق كالحوت الصغير
فكأن هذي الشمس ما كانت. و لا كان الصباح
إلا لغيري. و القناديل الصغيرة
أبدا تضاء بغير بيتي و الحدائق و الأقاح
في حقل غيري. و الرياح
أبدا تطاردني على ظهر السفينة
و الموت و الحوت اللعينة
و السيب و الديين في كفي و آلاف المحار
في القاع تبرق باخضرار
كعيون عفريت يطارده النهار
مثل المصابيح الصغار
و الدود و الأسماك حولي و الحجار
أواه يا تعب البحار
حطمت ظهري. و الحياة رحى تدور كما يقول
نهامنا في الليل: أيام تزول
و تدور أفلاك الحياة لغاية فوق العقول
يا أيها البحار سوف تظل في ليل البحار
نجما بلا أفق. و في تلك السواحل
الشمس تشرق في الخمائل
كعروسة شقراء. و الدنيا نهار
في عين غيري. و السوار
سيصاغ للحسناء في بمباي يا روحي الكئيبة
نهامنا يشدو لشطآن قريبة
سأرى بساحلها الحبيبة
عدنا على ضوء النجوم إليك يا دار الحبيبة
و الريح نشوى و الشراع كأنه سرب الحمام
سار على صوت النهام
و يظل ينهم و السواحل من بعيد
تبدو لنا صفراء تعكس كل ما فينا من الشوق الشديد
و تطل كثبان الرمال على الضفاف الحالمات
و نساؤنا المتحجبات
يضربن فوق دفوفهن كأنهن بيوم عيد
فرح اللقاء على الوجوه و في النذور
و الشمس فوق السور تشرق مثل قنديل كبير
تهدي خطانا مثلما كنا على ضوء النجوم
في الليل نسري عبر هاتيك التخوم*

* مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١


بحاري الحبيب؛
ثلاث شموس أشرقت قبل لقياك هاتيك السنون، و الآن أشفق على شوقي الطفولي العجول، عندما خالطت أحلامي الصغيرة صوت نهامكم الصبور. علمتني أرضنا الصفراء أن الشمس لعبة العارفين بعروق مدينتنا القديمة. علمتني من أين نأتيها لنزينها بخطوط الفيء الدقيقة. فوقتك عبر بحر كل يوم هو في شأن، و وقتي يمر عبر شمس كل يوم على ذات الشأن. و تجول بخاطرك من بجيدها القلادة و تذوب في عنقي حبات تندي الجيد في فيح الظهيرة. و ما أحلى النساء إن عز النساء و ما أبلغ أصوات الكون وصفا للحبيبة، تتكون كنسيج ثوب مسحور في كل خيط منه عطر امرأة و في كل ثنية زمن امرأة، و في كل فتحة روح امرأة. غب سننتظرك حتى تهل علينا، و ثق بالشمس ما دامت في يدينا


المذكرة الأولى

أبحث عن مذكرات بحّار، ألا أجدها في مكان تعرفينه؟

عندنا في المكتبة أتريدين استعارتها؟

لا، أريد اقتناءها، أريدها لي و بين يدي

أذكر شغفك بها منذ الطفولة، ظننتها عندك

أريدها، لطالما مرت على خيالي نسائم رحلاته

سأسأل والدي، ربما يعرف مكانها

و رحت أبحث عن مذكرات البحّار التي ضاعت فلا ندري سبيلا إليها. بحثت عنها في شارع فهد السالم و الشارع الجديد لقربها من البحر فأخبرني أحد الكُتبية أنني سأجدها في حَوَلّي. و في حَوَلّي تمشيت و كلّي جهل بهذا البحّار الذي أبحث عن مذكراته و لا تعتريني إلا الرغبة الموروثة في إيجاد كتاب ضائع، و في حالتي، كتاب غير معلوم كنهه و لا محتواه.
وجدت المذكرات منسوخة و مصفوفة للبيع في دكان للكتب، ما أحقر نهاية الأفكار و الأيام. اشتريت نسختان إليها و إليّ، أحبها رفيقة الطفولة. أحطت الكتاب بمظروف و سلمته إليها، فرِحَت كثيرارفيقة الطفولة و أوصتني:

كل يوم قبل أن تنامي، إقرأي مذكرة

ودعتها قائلة: أتركك الآن لتبحري معه

و بعد أن اقتنينا مذكراته في جو من المراهقة الساذجة المنعشة، قلّبت أوراقها و فككت رموزها و ما أصعبها من رموز حين تقاطع العين دموع المُقَل، و انتقلت إلى حالة عمرية مجهولة. على المسنّة قرأتها. المطر يهمس للبحر و الموج يغازل الرياح و الرعد يزجر الغيوم فتُعيد دائرة الماء روحَك.

-
أركبت مثلي البوم و السنبوك و الشوعي الكبير؟
أرفعت أشرعة أمام الريح في الليل الضرير؟
هل ذقت زادي في المساء على حصير؟
من نخلة ماتت و ما مات العذاب بقلبي الدامي الكسير
أسمعت صوت دجاجة الأعماق تبحث عن غذاء
هل طاردتك اللخمة السوداء و الدول العنيد؟
و هل انزويت وراء هاتيك الصخور؟
في القاع و الرماي خلفك كالخفير
يترصد الغواص. هل ذقت العذاب؟
مثلي و صارعت العباب
أمسكت مفلقة المحار؟
في الفجر مرتجفا لتكتمل القلادة
في عنق جارية تنام على وسادة
ريشية في حضن سيدها. و رائحة المحار
بإزارك البحري تعبق. و البحار
مملوءة درا سيملكه سواي
كحقول تلك الأرض. يا دنيا العذاب
ما ذاق مرك مثل بحار تقاذفه العُباب
عريان إلا من سواد
تتهيب الأسماك منه. و البحار
أحنى من الأرض التي مَحَلَتْ. فلا عطر يضوع
فيها و لا نبتت كروم
مهما تلبدت الغيوم و أمطرت كل السماء
تبقى ككفٍ بخيلة تأبى العطاء
أواه ياأرض الحرائق و السموم
البحر أحنى من ضفافك، و الشراع
أذرى إليّ من الصنوبر، يا بحار
الملحُ فيك ألذ من عنب الدوالي في المدينة
فخُذي شراعي يا رياح خذي السفينة
سأعيد للدنيا حديث السندباد
ماذا يكون السندباد؟
شتان بين خيال مجنون و عملاق تراه
يطوي البحار على هواه
بحباله
بشراعه
بإرادة فوق الغيوم
بيد تكاد عروقها الزرقاء ترتجل النجوم
يا أرض يا كهف الهموم
من أمس أمس و لم تزالي مثل ماخضة بها مات الجنين
لا السحر ثبّط من جماحك لا و لا الحق المبين
من عهد قابيل و قمحك كل عام
يسطو عليه الدود يا أرض الظلام
مصباحي النفطي يلهث مثل عيني لا تنام
تترصد الآفاق تبحث عن ضفاف
و تهب عاصفة فتطفئه. و يرتفع النهام:
ضوء الشموع
من وهج عينيها فذوبي يا ضلوع
و الجوع و الجُدري في الأرض الحزينة
و ترصد الأسماك للبحّار في غرق السفينة
و الموت في غرقٍ أجلُّ من البقاء
في عالم فيه مكان لابن آوى و القرود
إلا أنا
ما دمت حيا فالبحار
مأواي. أو باع قصير
في الأرض حين أموت. يا ملح البحار
ستكون شهدا عن قريب. و النهار
سيطل مثل عيونها. ألقوا الشراع
و دعوا السفينة يا رفاقي في الضفاف
ها نحن عدنا ننشد الهولو على ظهر السفينة
من رحلة الصيف الحزينة
ها نحن عدنا للمدينة
و لسوف نبحر حين تمطر في الشتاء
فإلى اللقاء [١]
-

و ركضت عائدة إلى بحر خاصمته سبعين عاما، أين غواصي العظيم؟ أين رائحة القفال و زحمة الحريم؟ و ما زلت في اقتراب و أنا أرى على الرمال اللؤلؤ المنثور، و ما زلت في اقتراب حتى صار حبوب قِصّيع و خدود العجوز، داخلها هواء، و تدور مع النسيم و تدور و تدور، لكنها أبدا لا تطير.

يا أيها النائي إلى زمن بعيد، زمن يلطم البحر وجه الأرض على موت الرجال، و أي رجال.

بحّاري الحبيب، في نفسي عادة موروثة أن أكون زاد الأساطير ليحلو ليلك المالح، و في نفسي انتظار لقلائدي التي وعدتني بها... عيناك قلائدي، يا حلاتها حين تلمع بين حكايا الهند و زنجبار. أقصها حكاياك على النساء بفخر النساء، و عندما ترينك عائدا وقت القفال تتلفعن بطرف العباة و تتلفتن على بعضهن و تتهامسن. في البحر عزك و أنا هنا بعبايتي حول جسدي تواسيني، تقبّلني تذكرني بشفاهك الجافة.

بحّاري لقد لفّتنا عواصف الغبار، فاختفت مرامي البحار. لم نعد نجلس بالذرى ننتظر السفينة، و عافت الأثواب عطرك فلم نعد نغسل بالبحر ملابسنا الثمينة. بحّاري اختلط تاريخك بأساطير السندباد، و شاب البحر فلا نرى على الخليج إلا أطفال يلعبون بأطرافه و يتراشقون مياهه و كأن لم يكن يوما مَلِك البحار. بحاري الحبيب، إن كنت حزينا من أهوال تراها، فمدينتنا الآن من لا شيء حزينة.

لست أهوى ترديد أمجاد تقادمتها السنين، و لكني سأجلس على ذات المسنّة، أحيك لك قحفية، و أدعو مع كل عقدة أن تعود و يصدقني الأطفال لعل يولد في قلوبهم بحّارة صغار




١. المذكرة الأولى،
مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١