لقد استعرضت في سلسلة قصة الخَلق تكونات المدينة الكويتية المختلفة، مع عدم التزامي بالترتيب التاريخي لتأثري بخريطة الواقع الغير خطية، و وضحت فيما طرحت جزءاً من تفاعل الشعب مع التغيرات العمرانية التي حدثت من ذاك الزمن القريب الغريب، إلى الواقع الحاضر و الذي يلعب فيه "التخطيط" و "الأحداث" التي مرت بها الدولة دور السبب و النتيجة على حد سواء
أما الآن، فأنا أتمشى في الديرة التي أسمع الكل يتذمر منها، و من ساكنيها و من سوء إدارتها، فأراها غاية في الأداء الحضاري، و قد أثبت سكان مدينة الكويت من العرب و الهنود و الباكستانيين و البنغالية أنهم يعرفون كيف يعيشون. و الدليل وجود عناصر الأداء التكافلي لحركة الحياة في هذه المنطقة المهمة مثل
- تخصص النوع التجاري للشوارع
- فرز المباني قبل هدمها و النفايات و الاستفادة من هذه المخلفات
- محاولة تقليل المسافة بين مكان العمل و السكن لتقليل المواصلات
- استعمال مركبات النقل الجماعي لتقليل الضغط المروري و التلوث و مصاريف التعبئة
- التجمع في الساحات، و استعمال كل ما توفره المدينة من مرافق عامة، و التنزه العائلي على شواطئ البحر
- غسيلهم منشور على واجهات المباني فلا توجد أسوار تمنع حياتهم عن الشارع
- استغلال المساحات المتوفرة للسكن و الإيمان بالتطور البطيء لا هاجس الطفرة
- شبكة المندوبين و الفراشين في القطاع الحكومي و الذين يشكلون البنية التحتية لسير الدورات المستندية و توجيه المراجعين
- حراسة مباني الدولة و أرشيفاته
- تنظيف الشوارع و المرافق العامة
و في زيارة إلى حلاق لاهور قبل سنتان و الذي أشاد بالكويت و شعبها الذين عدد لي بعض القديمين منهم بحكم سنه، جلس معنا سائق شاحنة لاهتمامه بأمر السائحة الكويتية في مدينة الكويت فكان يجيب على ما كنت أطرح من أسئلة و يشير إلى أن مشكلة الكويت هي في إداراتها و تعاملها مع بعضها البعض حيث أن كل شيء يُحل بالتداول السلس ضارباً لي أمثلة في معاملات السفارة مع الحكومة، ثم و إثر سؤالي له عن هدم هذه المباني التي يعملون و يسكنون بها و التي هي عادة من مباني الستينات أعربا هو و الحلاق عن استيائهما من إهمال البلدية و عدم اهتمامها بذلك، قائلاً بلغته المختصرة و الواضحة لقلة المرادفات أن المدينة القديمة هدمت، و الآن المدينة التي كانت جديدة صارت تهدم، ثم لن يعرف أحد التاريخ؛ شعرت و هو يقول ذلك بأن المدينة تتكون و تسير على محو ما سبق، كصفحة بيضاء نرسم و نمحو بها حتى صارت رمادية.
سائق الشاحنة و الذي علمت بعد ذلك أنه خريج علوم سياسية من جامعة نيودلهي، حاله كحال العديد من أصحاب الرأي و النظرة الواعية بشأن مدينتنا، فلا أنسى كلامه حين قال: إننا عشنا في هذه البلد و نشعر بالانتماء له رغم ما يظن بعض الكويتيين عنا بأننا نخرب منظر هذه المدينة من وجودنا بها. هذه "النظرة" التي قال بها فسرت عدم رغبة الجزار بالحديث معي، و عدم تعاون الحمالي أيضاً أو تجمع بعض الأفراد لسؤالي إذا كنت من البلدية أو إذا كان المبنى الذي يسكنون به سوف يُهدم قريباً.
ثم نطلع من باب السور، إلى مجتمعنا المحافظ الذي لم يحافظ إلا على ثقافة السور، و حتى في هذا نسي أن السور كان يحيط بنا جميعاً. فمجتمعنا لم يحافظ على المدينة القديمة رغبة في التغيير و كانت الرغبة في مساحة من الأرض واضحة، ثم تغيرت رغبات الناس، و تغيرت معها الحال المعيشية فلم يعد البيت إلا للإيواء و لم يعد التوزيع الفراغي مهماً بقدر التوزيع الجغرافي على الخريطة و ذلك ليس بالضرورة من أجل القرب من مكان العمل، حيث أن بيت الأسرة الكبير عند الكويتيين أهم شأناً من مكان العمل.
عندما هُدِمت البيوت القديمة مع بداية الستينات، ضربت العادات و التقاليد عرض الحائط فنسيج المدينة العمراني القديم هو أساس لسلوك و عادات معينة و انعكاس لها، فإذا غاب الأول غاب الآخر، ثم بعد فترة من الانفتاح، تلتها حقبة بائسة من أزمة المناخ إلى الغزو العراقي، بدأ فيها الناس الحنين إلى ماضٍ هدمت أبعاده، و بدأت فيها نزعة المحافظة و لكن المحافظة على ماذا؟ و كيف؟ فغرست أعواد من الحديدعلى واجهات إسمنتية للإيحاء بالچندل القديم ،و بنى البنّاء الثمانيني و التسعيني بنية عمرانية من الدين كما حيك على المغزل ثوب الإمبراطور و قيل يجب أن نحافظ عليه و نسلك سلوكه و نهجه.
فتطورت هذه البنية و تعالت في البنيان حيث أن ساكنيها كثيرون، و على أساسها سمي مجتمعنا بالمحافظ، و نحن فعلاً لم نحافظ على المباني القديمة، و لم نحافظ على مدينة الستينات، و لم نحافظ على الدستور و لا المال العام و لم نحافظ على الدين بما يحمل من تسامح و عملية و رفض للفرقة و الفتنة بين أفراد المجتمع، و لا حافظنا على حرية الاعتقاد و لا حتى على حياتنا الخاصة، رغم انتشار ثقافة السور*.
نحن مجتمع غير محافظ، و لكني لا أندم على شيء صار أو حتى على ما فعلتُ، و إنما أخجل، كخجل الألمان مما فعل هتلر و الذي يدرسونه في مدارسهم، نعم، يدرسون شعوراً، و الخجل لا يجعلنا نفتح صفحة جديدة كما الندم، و إنما يلزمنا بصفحتنا الرمادية هذه. و تظل قصة بلدنا تُروى كقصة الخَلق؛ قصة آدم و حواء التي كلما نسمعها ندرك أكثر أنْ إذا بدايتنا كانت خطيئة، فإلى الخطيئة حتماً سننتهي
*أقصد بثقافة السور هو أن قسائمنا في المناطق الحضرية الجديدة دائما يحيط بكل واحدة منها سور عالٍ يحجب الحوش و الناس عن الشارع و الفريج لأن ما هو خارج عن البيت في تخطيط دولتنا هو ملك للسيارة، و لذلك فلقد تغيرت ثقافتنا على أساس هذا التغيير في علاقة المنزل بالشارع