المذكرة الثامنة

مازلت أذكر كل شيء عن مدينتنا القديمة
عن حارتي الرملية الصفراء و المقل الحزينة
لما نحدق في السماء على السطوح
نضبت جرار الماء و الغدران مثل يد البخيل
محلت فأمست كالقبور
مخسوفة سوداء تملؤها الصخور
و على الضفاف الغارقات
بالشمس و الرمل المندى و الضباب
وقف الصحاب
يترقبون سفينة الماء التي قالوا تعود
بالماء من نهر الشمال
فالأرض رمل و السماء
بيضاء صافية كنهر من جليد
هيهات أن تمطر. و يهتف من بعيد
نفر يبشر: أن صارية تلوح
كهلال مئذنة يغلفها الضباب
عبر العباب
و على ظهور جمالنا الظمأى تحجرت القراب
سوداء فارغة يغطيها التراب
كبطوننا
صلي إذن فالموت أقرب ما يكون
و الريح أغرقت السفينة و السماء
حقدت علينا يا أمينة
صرخات طفلك في الظلام أتسمعينه؟
نهداك ملؤهما الحليب و أنت ظمأى ترضعينه
في بيتك الطيني قابعة حزينة
تتساءلين عن السفينة
و عن السحاب و عن رفاقي في المدينة
و الأفق صحو و النجوم
زرقاء تبرق مثل أقراط ثمينة
و تثور عاصفة كأن قوى الوجود
سمعت أنينك فوق أرض لا تجود
إلا برمضاء الرمال و بالدماء
و الجوع و الجدري يفتك بالصغار
ضحكاتهم في الليل تبرق كالنجوم و في الصباح
يتساقطون كما الزنابق حين تعصفها الرياح
و كما تنير الشمس أعماق الكهوف
إيماننا بالأرض ملء قلوبنا رغم الجفاف
نحن الرجال
نحن العطاء إذا تعذرت الحياة عن العطاء
و في السماء
الجنة الخضراء و المطر الذي يروي الحقول
لا في القصور الشامخات
أو في خزائن أغنياء مدينة إسطنبول و روما
البعيدة
تلك التي شبت بها النيران. أبرقت السماء
عيناك تحت ضيائها الفجري تشرق يا أمينة
مثل الشموع
و الريح كالراعي الذي ألقى عصاه
لينام خلف الأفق. و البرك الحزينة
بدأت تفتح مثل أفواه الجياع
مثل البراعم حين يلفحها شعاع
حتى خليفة جارنا الأعمى تحسس أن أمطاراً
ستهبط يا أمينة
هل تسمعينه؟
هل تسمعين عصاه تقري السلم الطيني
تبحث عن مداه
فالسطح يزخر بالمياه
و البركة الجوفاء فارغة كبطن الذئب تبحث عن
غداء
أختاه أمطرت السماء
و ذكرتُ قصة من تمرد ضد طاغية عنيد
في ذلك الماضي البعيد
فتألبوا كي يقتلوه
و تساءل الملك الذي في كفه أمر المدينة
عن ميتة أقسى من الموت الذي قرروه
فرموه في الصحراء حيث رؤى السراب
كالماء يبرق في مهاويها الرحاب
و يروح يركض ثم تنبجس المياه بكل خطوه
فإذا الرمال الصفر ربوه
خضراء تملؤها الأزاهر و الطيور
و بكوخه عند الغدير
جلس المشرد كالنبي ليكتب الكتب الكثيرة
عن رحلة الإنسان فوق الأرض و الدنيا الأخيرة
عيناه ينبوعان من نور و جبهته ظهيرة

مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١

بحاري الحبيب، وسوست لي ما يكفي عن هاجس المطر. عن مكاتيب تنشف ريق قارئها و قرابين كُثُر. بحاري عطاؤكم بعيد، عطاؤكم بعيد. و هأنذا أكتب في اليأس. ظننت مدة أنني من بُعدك أتأذى و لكن يبدو أنك من محاولات وصلي تتعذب. فكفانا إيماناً بالمدى و لنقل قد كان سراب. و لتعد البسمات إلى عين الشمس كسنون طفل وسيم

أبرقت السماء، فرسمت بالضوء خرائط مدينتنا؛ قصوراً فوق البيوت و شوارعا فوق السكيك و دكاكين تُباع و تُشترى.. ما فيها أحد، فأنت هناك، و لقبك الآن "كان". و لهذا ينظرها الناس من بعيد، مدينتي، و يظنون فيها الحياة لكن فيها تدور عذراء الموت تجمع أشياءنا في ساحة رملية و تصلي للمطر حتى تكتمل المائدة

بحاري غشتنا الصدفة بمكاييل الرؤية، و شكهم بقوى الخيال بدأ يفنيني شيئا فشيئا



المصوّر ابراهيم

كنا نبحث عن استوديو تصوير في إحدى أزقة شارع فهد السالم، دخلنا عدة استوديوهات لنتفقد ما إذا كان مناسباً لما نريد حتى وصلنا استوديو الصحافة، دخلنا نبحث عن أحد، فجاءنا رجل عجوز من خارج المحل يلبس تي شيرت زرقاء و بنطال بني و قبعة بيضاء تشبه التي يلبسها عمال البحرية و سألنا عن مطلبنا، فاستأذناه أن نلقي نظرة على استوديو التصوير، فأخبرنا بأنه بالٍ و لا يصلح لشيء فطلبنا منه رؤيته رغم ذلك . تقدمَنا لينير لنا المكان و حذرنا من وجود عائلة قطط تعيش فيه

أنا لبناني
من وين من لبنان؟
من الجنوب

كان في الاستوديو قطة سوداء و عيالها الصغار، و عدة كراسي، و خلفية أشجار متدرجة ألوانها بين البرتقالي و النيلي، و ينزل من السقف قضيبان متحركان يحملان فلاشات قديمة، و مصفوفة هنا و هناك صور قديمة رائعة في براويز خشبية لحريق في الكويت و جنود. سألناه إن كان بالإمكان التصوير في هذا المكان فرد علينا بأنه لا يستطيع التصوير الآن لأن باله مشغول بإقامته فصاحب المحل الكويتي بدأ يفكر في استرجاع المحل، و كفيلته عجوز مريضة، و يصرف ديناران يومية التي تشتغل معه في المحل

سكت قليلاً، ثم استطرد يقول

أنتم لا تعلمون كم رأيتُ من البؤس، فقد وعيت على الدنيا بلا أم، سألت جدتي عنها فقالت أمك و أبوك تطلقوا. و عندها اتخذت وعداً بيني و بين نفسي ألا أتزوج. كانت خالتي -زوجة أبي- تشغلني في حمل الحطب و رمي الزبل مثل الخادم، و تعلمت حتى الثالثة الإبتدائي، ثم لم أعد أستطع جمع ما يكفي من أجل الكتب، و لكم كان الذهاب إلى المدرسة صعباً من البرد الذي يأتينا من جبل الشيخ. و عندما بلغت الخامسة و العشرين جاءتني أمي لتراني و أنا في ساحة العروبة -فلقد كنت ثورياً- أتتني تريد أن تراني، و لكني كنت قاسٍ معها

و صار يمثل أمامنا حواره معها و كيف قال لها آلآن تأتين بعد كل هذا الزمن؟! بعد خمس و عشرين سنة تذكرتِ أن لك ولد؟ و في الخامسة و العشرين أيضاً أحب فتاة، و لكن قال له أصحابه "يا ابراهيم، أنها تكلم شخصاً آخر"، فاختبأ عند المدرسة ليرى إن كان ما يقولون صحيحا، فصدق قول الناس عنها، و بعد فترة تزوجت، فكره حياته في بلاده، و أرهقه إلحاح جدته على الزواج، فعزم على الهجرة إلى أي مكان، فأشاروا إليه إن كان لا يفقه لغات الإفرنجة أن يذهب إلى الكويت و عبر سورية و منها إلى العراق ثم جنوبا إلى هنا بالسيارة عام ١٩٥٩ و هي ماتزال تراباً

بعد مجيئه بقليل، اتصلوا عليه من لبنان و قالوا له أن جدته صارت مشلولة، فرجع لها و عاتبته كثيراً على رحيله، و لكنه لم يستطع المكوث أكثر، فرجع إلى الكويت و لم يعُد ثانية إليها حتى ماتت. احترف التصوير في الكويت و اشتغل لدى جريدة الرأي العام فترة طويلة. و بدأت حبيبته ترسل إليه الرسائل من الجنوب، و أخبرته بعدم ارتياحها من زوجها و عن سوء حالتهم المادية و لذا صار يبعث لها جزءا مما يكسب

عندما يصلني منها مكتوب ياه كم كنت أفرح، كنت بروح عل البحر و ارمي حالي هيك بهدومي! كلما أتاني منها مكتوب.. ثم قالت في رسائلها أنها هاجرت إلى المملكة العربية السعودية و مازلت أبعث لها ما تيسر من نقود، حتى فتن بيننا نمام و جعلها تزعل مني، ولقد أتاني خبر وفاتها قبل شهر من اليوم -باكياً- ماتت و هي زعلانة علي

التفت بعد ذلك علينا و قال: كيف وجدتموني؟ من أين جئتم؟! إجيتوا و بكيتونا... أجبته بلا أدري فقد انتفت شروط الزمن و نحن نسمع قصته. "لا تعيدوها و تجوا هون" قال مداعباً "انتوا لقيتوني لأنكن دراويش، إنتن دراويش و أنا كمان درويش، تعرفوا شو يعني درويش؟".. ابتسمت ثم التفتُ على صديقتي أسألها إن كان يجب أن نذهب و لما رآنا نتشاور قال ضاحكاً: أخاف بتكونوا هربانين! أحيانا ينادوني شرطة الصالحية لأصور المقبوض عليهم

و بعد إطراقة، "إنتوا مجوزات؟" و لما أجبنا بالنفي قال سأدعو لكم فأنا دعوتي مجابة

لقد اشتغل عندي عاملان باكستانيان، و معروف عنهم أنهم يسرقون، و لهذا جربت امتحان أحدهما و بينت مكان المفتاح له لأرى ماذا سيفعل، ثم و في أثناء سفري، سرق آلات التصوير من علبها و هرب. و من بعدها و أنا أدعو عليه إلى أن مرض و اتصلت بي أمه تتوسل إلي ألا أدعو عليه، فدعوت أكثر، فأنا قاسي مع من يقسو عليّ حتى أمي لما رحت لها و هي على فراش الموت و سألتني إن كنت أحبها قلت لها حتى و إن متي أمامي لن تدمع لك عيني.. سكتنا، ثم انتبهنا إلى صغار القطط و هي تلعب و راقبناهم بابتسام حائر فقال: أنا قاسي لكن حنون؛ فلقد حاولت كثيراً أن أتخلص من عائلة القطط هذه، و ذهبت بهم إلى حديقة وهران لأتركهم هناك، لكنهم يرجعون إليّ فيعز عليّ تركهم

ثم يلتفت بفخر إلى صوره القديمة و يسألنا حلوين الصور ما هيك؟ الجنود و هم بيطفوا الحريق كأنهم حدادين و نجارين في مصنع كبير... يمكن هذي الصور هلّأ تتباع بـشي ٣٠ أو ٥٠ دينار، كنت مصور نمبر ون! كنت لما بصور المباريات للصفحة الرياضية كان يناديني الشيخ سعد -كنت أحبه الشيخ سعد- كان يناديني و يقول لي باللهجة اللبنانية وينَك؟ وين صوري جيبهم، فأجمع له صوره و أعطيه إياها

التفت علينا مرة أخرى يقنعنا بأن نأخذ عيال قطته لنخفف عليه -فلقد كان يحاول ذلك مذ أتينا- و لكن أخبرناه بأوان رحيلنا حيث أنه لم يرضَ أن نصور عنده -رغم إلحاحنا- لأنه مثلما قال آنفاً متضايق، هيك بدكن تروحوا من غير خسارة، لا شاي لا قهوة لا بارد؟ .. شكرناه و ذهبنا

بيّاع البرّد

أذكر مرور أيام كانت تسير بها أموري بسلاسة عجيبة رغم غرقي بالمشاغل، و لما أخبرت صديقتي بجمال تلك الأيام و فرحتي بالقدر حينها، و بتمني تجسده لشكره رسمياً، كنت أتساءل عما إذا كان القدر شخصاً عادياً يعيش بيننا، متخفٍ بملابس الحياة؟ ماذا لو كان بيّاع البرّد مثلاً؟ و من هنا نشأت حماستي بأن أقوم بزيارة كل من أشتبه به أن يكون القدر لأسمع قصته. ثم سمعت عن اعتصام في "ساحل" الإرادة من أجل الحرية، و لطالما أردت أن أرى هذه الحالة من جانب بلاغة الشف، فليس في نفسي أية حمية أو حماسة لأي موضوع يطرح بقدر رغبتي برؤية الحدث. فذهبت إلى هناك متحاشية الحشد الأبيض الذي دائماً ما يفزعني من بعيد، متجهة إلى بيّاع البَرّد؛ حدثي الأهم.

سلمت عليه و قلت له أنني أريد الجلوس معه و السؤال عن حياته فرحب بذلك بأدب جم . التقطت له صورة -التي ترونها هنا- ثم قال لي أن اسمه معاذ محمد خلف، مواليد ١٩٨٣ و من سكان صهاج(١) في صعيد مصر. حاصل على ليسانس آداب قسم التاريخ من جامعة جنوب الوادي ٢٠٠٤. تخرج الثالث على دفعته، و كان حلمه أن يكون معيداً في الجامعة، و لكن جامعته أخذت الأول و الثاني و لم تقبله في البعثة، و لذا قرر أن يدرس على حسابه، فسافر إلى أخوه الذي يكبره سناً و الذي يعمل مهندس بترول في الكويت. و عاش معه هو و أخويه الآخرَين في شقة في منطقة دسمان و التي إيجارها ١٢٠ دينار في الشهر، يعمل صباحاً مدخل بيانات في جامعة الكويت، و عصراً في بيع المثلجات على ساحل البحر و يتابع رسالة الماجستير مع دكتورة منتدبة إلى الكويت من جامعته

والده مزارع و أمه ربة منزل، له أخت غير متعلمة، و أخته الأخرى طبيبة و مهاجرة مع زوجها إلى فرنسا. يقول أن الأهل في الصعيد لا يلزمون الأبناء على شيء، و لا يتناصحون بالأفضل و الأجدر، فرغم أنه كان حاصلاً على نسب عالية في الثانوية، دخل قسم التاريخ لأن صاحبه اختاره، كان يتمنى أن يدرس الصحافة و لكنها تحتاج ما ليس فيه من الجرأة. له من العيال ثلاثة توائم؛ ولدين و بنت: مهند و معتصم و حنين، و زوجته اسمها أميرة و هي خريجة آداب قسم علم نفس و حاصلة على درجة الماجستير، و هم يعيشون في مصر

سألته عن سبب حضوره للكويت فقال بأنه و هو هناك في مصر كان يشعر بالغربة حيث أن أغلب أهله هنا في الكويت و الآخرون إما مهاجرون أو مقيمون و لكن مشتغلون بما لا يوافقه من مهن. ثم سألته عن سبب اشتغاله ببيع البرّد عصراً فأجاب بأنها مهنة حرة من الالتزامات الرسمية و لها مردود لا بأس به حيث أنها تدخل تقريباً دينارين في اليوم -أي ٦٠ دينار في الشهر- مضافاً إلى راتبه الصباحي، و لكن الأمر أصعب على أخوه و الذي يشتغل ببيع البرّد كمهنة أساسية فيجب أن يجتهد أكثر للربح، استرسل بعد ذلك بالحديث عن هذه المهنة التي اعتاد غرائبها مع الزمن، فيقول أنه عادة لا يختلط بغيره من بياعي البرّد و هو لا يقصد كبراً في ذلك و إنما لا يرى نفسه منسجماً أولاً بسبب طبيعته المنطوية و ثانياً لأن أغلبهم غير متعلمين فلغتهم و طريقة تفكيرهم مختلفة عنه.

و من ناحية الزبائن فيقول بأن الناس هنا لا ترى فيهم الوسط فهم إما غاية في اللطف أو غاية في الوقاحة، و يحكي في الوقاحة عن امرأة جاءته بغضب بعد أن باع على أولادها بمئتي فلس بينما باع للآخرين بأقل من ذلك - و الفرق بينهما كان النوع- و لكنها اتهمته بالنصب و هددته بأن تضربه بنعالها. و عندما رد عليها بأن تصون لسانها، ذهبت إلى الشرطي و اشتكت عنده بأنه تحرش بها، فحمد معاذ ربه أن الشهود كثر حوله و هو في مكان للنزهة و إلا لكانت لبسته تهمة عقوبتها ٣ سنوات

أما من ظريف ما يرى في يومه فهو استغلال الشباب له في تبادل الرسائل و أرقام الهاتف، أو أن يأتيه طفل يجزم بأنه كان يبيع قرب بيته، و أنهم كانوا يبعثون له الغداء كل يوم. سألته عن تأثرهم بعوامل الجو، و لكن يبدو أن الأمر ليس بذي أهمية كبيرة بالنسبة إليه ربما بسبب طبيعة عملهم المتنقلة أو ربما هو شخصياً لا يهتم لذلك. استفسرت أخيراً عن ردة فعله تجاه ما يحدث من تجمعات و اعتصامات في هذه المنطقة، فقال أنها مربحة و لكن العديد من المتنزهين يبتعدون عن هذا المكان ما أن يروا تجمعات سياسية، و ذلك غريب على شخص اعتاد شعباً يحتشد مع الحشد

شكرت معاذ على وقته الذي تخللته مقاطعات المشترين، و مداعبات الأصدقاء و المارين و خطابات المطالبة بالحرية، و اشتريت منه برّد و ذهبت

(١) سوهاج

المذكرة السابعة

كصرير أبواب القلاع
في الفجر كالآهات في ظلمات قاع
كدوي رعد فوق مقبرة بعيدة
كرنين أجراس عتيقة
أصواتنا فوق السفينة حين نبحر. و النهام
كغراب حارات قديمة
يشدو بألحان حزينة
للبحر و المحار: أبحرت السفينة
و غداً نعود لكم أحبائي على شاطئ المدينة
حاراتكم فوق الرمال و نحن في ليل البحار
ضوء النهار نصيبنا منه الظهيرة و الجُثام
و من الشموع دخانها، صوت النهام
قيثارة بحرية ألواحها الثكلى عظام
من صدر مسلول: تعالي يا حذام (١)
قد قلتِ صدقاً ليس يفهمه الأنام
بيتي أحب إلي من قصر يقام
في وسط مزبلةٍ. تعالي يا حذام
و يظل ينهم ثم يبكي. و المجاديف الطويلة
تحت الضلوع الناتئات
تحت البطون الخاويات
رفسات عفريت تخبط. و البحار
فيها العجائب. مهد طفل من حجار
قبر بلا لحد. عراة يغزلون
إكليل عرس. سندباد
تحت المياه يعيش كالأسماك. سقراط الحزين
و الكأس و القمر الجميل
كالبيت يسكنه. حفاةٌ يصنعون
نعلاً من الفيروز غابات مخيفة
للنجم و الأقمار. مقبرة كبيرة
أمواتها يتحركون
و يدي و مجدافي و صندوقي العتيق
هم عدتي في البحر يا وطني الحبيب
يا أيها الرمل المعطر بالدماء
يا موطن الصياد و البحار يا خبزاً و ماء
أصواتنا فوق العباب وراء هاتيك القلاع
كصرير أبواب القلاع
كدوي رعد فوق مقبرة. كأجراس عتيقة
في الليل تقرع. و السفينة
وسط العباب
"كسدوم" أو "روما" التي شب الحريق
فيها ليطرب ذلك المجنون. يا ريح البحار
نام النهام و في الصدور
مات التشبب و الحنين
مثل البراعم
أوراقها يبست عليها. و الحناجر قد تموت
إلا الأغاني سوف تخلد يا بلادي. يا رياح
سيكون بطن الحوت قبري. و الحياة
قد تنتهي إلا العذاب
يبقى كما تبقى الطلول
بعد الزلازل. فالمهود
مثل القبور
و الشمس تغرب مثل حسناء تموت
و البدر يذبل مثل قنديل تكسر. و الجبال
تنهار كالجدران. حتى الأرض تقلقها الزلازل
و الرياح
إلا البحار
تبقى لتبتلع الجميع
كالحوت حين يجوع يا طوفان نوح
يا حكمة الدنيا القديمة
في البدء كان البحر لا الكلمات، يا تلك
السفينة
أبناء "نوح" فوق متنك يبحثون
عن ساحل و أنا أفتش عن محار
ذهب الغراب و لن يعود
إلا غرابي عاد كالمطرود في وضح النهار
كرسالة سوداء يعلوها الغبار

مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١

بحاري الحبيب، باسم الصوت أبدأ كما بدأتَ، كما عزفت بعد الكاف، عن قلعة حاكم سكان المقبرة، هم تحت الأرض يزرعون نعلاً لا تمشي. و ينظمها إيقاع أجراس عتيقة نسيت مواعيدها. جدرانها الريح، جدرانها خمار حسناء تموت كل يوم تحت قنديل تكسر. حسناء من نار خَلْقُها تتمنى أن تكتب رسالة لا تحترق أو تسمع لحن جنازتها قبل موتها. أزورها كل يوم أجمع العظام لعلي أستطيع أن أصنع منها قيثارة أورفيوس العجيبة، لكن الضلوع تتنافر حسب اعتيادها العنيد، فأعتذر منها كل يوم على جهلي و قلة حيلتي، و لكني أعدها بالعودة في غد آخر، لعل الضلوع ترضى بمسافة أقرب

بحاري الحبيب، هو لحن صناعة اللحن ما أسمع

(١) إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام

تنويه

إلى كل من يقرأ مدونتي، ما أكتب هو ليس تأكيد على حياتي و إنما تحويلٌ لها إلى عالم الخيال، رغم أن العديد يرى في المكتوب حقيقة (لبعده المكاني) إلا أني أرى فيه ازدواج مع الشفاهية. لقد تلقيتُ -خصوصاً في الآونة الأخيرة- اتصالات أو أحيانا تعليقات ممن يعرفني من القراء يسألون عن حالي و ما إذا كنت بخير، أشكرهم، و لكني لا أشكو من شيء فأنا صحيحة أبصر و أسمع و أفكر و أبتسم و أحزن. ربما التعبير عن متناقضات الإنسان أو عرض المفارقات متعب لدى البعض، و لكنها حالة أعيشها و أبعثها هنا ،أو شيء أراه، ثم يتحول هنا إلى شيء آخر، أو تجربة، أو مسودة، أو تلاوة

فلا تحزنوا عليّ أرجوكم إذا كتبت عن حزني، فالفضاء ليس عائلتي، و أنا لستُ تماماً أنا.. و لكن اشعروا، اشعروا بشكل عام و انسوني كدرويش يدور

إلى كل من يقرأ مدونتي، أنا لست ليبرالية، أو وطنية، أو إسلامية (حسب المعروف في بلادنا عن هذه المفاهيم)، أنا لا أنتمي، أحياناً أظنني أنتمي للزمن، ربما لجهلي به. فكل ما قيل و اتفق عليه من المفاهيم السابقة لا يعنيني، مع أني أؤمن بوجود الجميع رغم أنهم لا يريدون الوجود حقاً فالوجود يبدأ بعلاقة و ليس بالظهور المطلق

إلى كل من يقرأ مدونتي، أنا مرتاحة مع حجابي و لست أرغب في نزعه، لكني لا أؤمن بأصله الديني وحيداً و لا بقدسيته، و لا ألبسه أيضا من باب العادات و التقاليد فقط، هو بالنسبة لي علامة أو تجربة أو منظور يحدد مسافات و علاقات و صور. فأنا أؤمن بعلاقته بي مع كل رغباتي و أحاسيسي تجاهه. و عندما أكتب عنه تحضرني كل مشاعري معه

إلى كل من يقرأ مدونتي أنا لا أكتب لكي تتعاطفوا معي، أو لتنتظروا لحظة جنوني، أنا لست حتى كاتبة! أنا لا شيء بعد فالكائن لا شيء حتى يكون

Today

I think, well probably, today is one of the most important days in my life. I don't think I have anything more to say. It's difficult too as usual.

parallel thought: when you keep repeating what you (or have been) said before, even if the audience/listener never heard it from you before, they will still find it repetitive.

أريد أن أصبح

تكلم سفيد في موضوعه الأخير عن أحلام الطفولة، و عندما بدأت في التذكر طرأت عليّ من أموري عجيبها فقد كانت طفولتي تلخص بحبي للقراءة و الرسم، إلى جانب ركوب الدراجات و المهايل في أرجاء المنطقة. أذكر أن إبن عمي كان يحلم أن يصير طبيباً أما أنا فكنت أريد أن أصبح رسامة، و لكن عندما قال لي والدي أن الرسم ليس مهنة و إنما هواية، أجلت أحلامي إلى إشعار آخر. بدأت أقرأ من قسم الأطفال في مكتبتنا، و بعد انتهائي من قصص الأنبياء قررت أن أصبح نبية، لإعجابي بمقاومة النبي للعب مع أقرانه و هو صغير، و تأمله في غار حراء و الذي يشبه في عقلي الصخور المحاذية لشاليهنا. كنت أفكر كثيراً بالمثالية و كيفية الوصول لها، و لهذا و بعد بحث طويل عنها أحسست و كأني جحا في قصته مع حماره و ابنه عندما مشوا معاً في مشوار فمروا على ناس أشفقوا على الصبي الصغير الذي رأوه و قد أرهقه المسير، فأركب جحا الصبي على ظهر الحمار، ثم مروا على جماعة أخرى استنكرت وقاحة الصبي في ركوبه الحمار تاركاً أباه ماشياً، فركب جحا مع ولده إلى أن رأتهم ثلة من المهتمين بحقوق الحيوان و لاموا جحا على إجهاده الحمار و انعدام روح الشفقة فيه. حار جحا بحاله فحمل الحمار على ظهره و أتم مشواره و الكل على هيئته اتهمه بالجنون

حارت فيني المهن و الأفكار و التوجهات، و لكن مثالية النبوة كانت تؤرقني، فهي شيء غاية في الإرهاق، حفظت بسببها الشعر و القرآن و شاركت في التمثيل و التسميع، إلى أن وصلت منهج التربية الإسلامية في المدرسة الذي فيه يذكر استحالة ظهور نبية، خاب حينها ظني و قررت أن أدخل العمارة لأنه التخصص الوحيد الذي لا يتطلب -حسب نظرتي آنذاك- إلماماً بأمر واحد بعينه و إنما معرفة عامة مع صقل لمهارة الرسم التي أملكها -منطقياً في المدرسة الطبيعية أو التصويرية على غرار المثالية-، بالإضافة إلى أن المناهج الدراسية اتفقت بالإجماع إلى أن الله خلقنا لعبادته و عمارة الأرض. تخرجت معمارية، و لكني أدركت بعد تخرجي أنني لست حقاً شيئاً واضح المهنة بعد -حتى حكومتنا لم تعترف بهذه المهنة بعد-، أعرف أنني طرحت المثالية جانباً لأدرس اللبس و بدلت المدينة الفاضلة بالمعادلات الخاطئة، و قنعت بألا أحاول معرفة نفسي و من أكون و ماذا سأصبح إلى أن توافيني المنية، و اعتمدت قراءة الفنجان و الكف و الأبراج في تخيل ما قد سيكون من جانب الترفيه و الفضول المصاحب للشك... أما ابن عمي فقد صار طبيباً