أذكر مرور أيام كانت تسير بها أموري بسلاسة عجيبة رغم غرقي بالمشاغل، و لما أخبرت صديقتي بجمال تلك الأيام و فرحتي بالقدر حينها، و بتمني تجسده لشكره رسمياً، كنت أتساءل عما إذا كان القدر شخصاً عادياً يعيش بيننا، متخفٍ بملابس الحياة؟ ماذا لو كان بيّاع البرّد مثلاً؟ و من هنا نشأت حماستي بأن أقوم بزيارة كل من أشتبه به أن يكون القدر لأسمع قصته. ثم سمعت عن اعتصام في "ساحل" الإرادة من أجل الحرية، و لطالما أردت أن أرى هذه الحالة من جانب بلاغة الشف، فليس في نفسي أية حمية أو حماسة لأي موضوع يطرح بقدر رغبتي برؤية الحدث. فذهبت إلى هناك متحاشية الحشد الأبيض الذي دائماً ما يفزعني من بعيد، متجهة إلى بيّاع البَرّد؛ حدثي الأهم.
سلمت عليه و قلت له أنني أريد الجلوس معه و السؤال عن حياته فرحب بذلك بأدب جم . التقطت له صورة -التي ترونها هنا- ثم قال لي أن اسمه معاذ محمد خلف، مواليد ١٩٨٣ و من سكان صهاج(١) في صعيد مصر. حاصل على ليسانس آداب قسم التاريخ من جامعة جنوب الوادي ٢٠٠٤. تخرج الثالث على دفعته، و كان حلمه أن يكون معيداً في الجامعة، و لكن جامعته أخذت الأول و الثاني و لم تقبله في البعثة، و لذا قرر أن يدرس على حسابه، فسافر إلى أخوه الذي يكبره سناً و الذي يعمل مهندس بترول في الكويت. و عاش معه هو و أخويه الآخرَين في شقة في منطقة دسمان و التي إيجارها ١٢٠ دينار في الشهر، يعمل صباحاً مدخل بيانات في جامعة الكويت، و عصراً في بيع المثلجات على ساحل البحر و يتابع رسالة الماجستير مع دكتورة منتدبة إلى الكويت من جامعته
والده مزارع و أمه ربة منزل، له أخت غير متعلمة، و أخته الأخرى طبيبة و مهاجرة مع زوجها إلى فرنسا. يقول أن الأهل في الصعيد لا يلزمون الأبناء على شيء، و لا يتناصحون بالأفضل و الأجدر، فرغم أنه كان حاصلاً على نسب عالية في الثانوية، دخل قسم التاريخ لأن صاحبه اختاره، كان يتمنى أن يدرس الصحافة و لكنها تحتاج ما ليس فيه من الجرأة. له من العيال ثلاثة توائم؛ ولدين و بنت: مهند و معتصم و حنين، و زوجته اسمها أميرة و هي خريجة آداب قسم علم نفس و حاصلة على درجة الماجستير، و هم يعيشون في مصر
سألته عن سبب حضوره للكويت فقال بأنه و هو هناك في مصر كان يشعر بالغربة حيث أن أغلب أهله هنا في الكويت و الآخرون إما مهاجرون أو مقيمون و لكن مشتغلون بما لا يوافقه من مهن. ثم سألته عن سبب اشتغاله ببيع البرّد عصراً فأجاب بأنها مهنة حرة من الالتزامات الرسمية و لها مردود لا بأس به حيث أنها تدخل تقريباً دينارين في اليوم -أي ٦٠ دينار في الشهر- مضافاً إلى راتبه الصباحي، و لكن الأمر أصعب على أخوه و الذي يشتغل ببيع البرّد كمهنة أساسية فيجب أن يجتهد أكثر للربح، استرسل بعد ذلك بالحديث عن هذه المهنة التي اعتاد غرائبها مع الزمن، فيقول أنه عادة لا يختلط بغيره من بياعي البرّد و هو لا يقصد كبراً في ذلك و إنما لا يرى نفسه منسجماً أولاً بسبب طبيعته المنطوية و ثانياً لأن أغلبهم غير متعلمين فلغتهم و طريقة تفكيرهم مختلفة عنه.
و من ناحية الزبائن فيقول بأن الناس هنا لا ترى فيهم الوسط فهم إما غاية في اللطف أو غاية في الوقاحة، و يحكي في الوقاحة عن امرأة جاءته بغضب بعد أن باع على أولادها بمئتي فلس بينما باع للآخرين بأقل من ذلك - و الفرق بينهما كان النوع- و لكنها اتهمته بالنصب و هددته بأن تضربه بنعالها. و عندما رد عليها بأن تصون لسانها، ذهبت إلى الشرطي و اشتكت عنده بأنه تحرش بها، فحمد معاذ ربه أن الشهود كثر حوله و هو في مكان للنزهة و إلا لكانت لبسته تهمة عقوبتها ٣ سنوات
أما من ظريف ما يرى في يومه فهو استغلال الشباب له في تبادل الرسائل و أرقام الهاتف، أو أن يأتيه طفل يجزم بأنه كان يبيع قرب بيته، و أنهم كانوا يبعثون له الغداء كل يوم. سألته عن تأثرهم بعوامل الجو، و لكن يبدو أن الأمر ليس بذي أهمية كبيرة بالنسبة إليه ربما بسبب طبيعة عملهم المتنقلة أو ربما هو شخصياً لا يهتم لذلك. استفسرت أخيراً عن ردة فعله تجاه ما يحدث من تجمعات و اعتصامات في هذه المنطقة، فقال أنها مربحة و لكن العديد من المتنزهين يبتعدون عن هذا المكان ما أن يروا تجمعات سياسية، و ذلك غريب على شخص اعتاد شعباً يحتشد مع الحشد
شكرت معاذ على وقته الذي تخللته مقاطعات المشترين، و مداعبات الأصدقاء و المارين و خطابات المطالبة بالحرية، و اشتريت منه برّد و ذهبت
(١) سوهاج