قصة الخَلْق ٢

و كما دائما ما نلاحظ فإن البلدية تبدأ أول مراحل التفكير في مشروع معين بخطوة الهدام العظمى، و كما نلاحظ أيضا، فإن الناس اعتادت على الأمر و صارت تتبع سياسة البلدية مع ممتلكاتها الخاصة. أذكر أننا في نقاشاتنا حول هذا الأمر في الجامعة قلنا أن هذا الأسلوب الغير مبالي بقيمة المبنى قد يرجع إلى أن الكويت كانت بيوتها من طين، تتهدم مع الأمطار و يرجع البناءون بعد الأمطار لإصلاح البيوت، فإن بيتا يتهدم في السابق كان أمرا أقرب إلى الاعتيادية لأنه ببساطة من طين ثم تطورت اعتيادية الهدم إلى أن وصلت إلى هدم المباني بعد كل تعديل في قرارات البلدية الخاصة بارتفاعات المباني أو نوع الاستثمار

البيوت الآن من طابوق إسمنتي و خرسانات مسلحة، و هد
مها يعتبر عدم اكتراث لتاريخ المباني و جهل في كيفية إعادة استعمالها و تأهيلها. و في ذلك أيضا تغييب لوجودنا كمعماريين قادرين على ايجاد بديل للهدم قد يعود بمنفعة أكبر. أعتقد أن ألمانيا و إنجلترا من أفضل الأمثلة على ذلك، فعند وجود منطقة في حاجة إلى إعادة نظر أو تطوير، تصدر دراسة أولا على المنطقة أولا فتُعرض على الجامعات لتدرس الحالة الحضرية و تنشأ بعدها عدة بدائل و أساليب إنشائية و تطويرية لن تنشأ إطلاقا إذا تم هدمها مع قرار إعادة النظر

قد يشعر القارئ بالمبالغة إذا قلت أني أبكي عندما أرى مكائن الهدم تكسر مبان كانت من معالم الكويت إما في الأربعينيات أو في الثمانينيات، و يعزو ذلك إلى كوني معمارية و من الطبيعي أن أتأثر لذلك، و لكن مع إيجاد مواد أكثر شعرية و اجتماعية و تاريخية عن فترة هدم المباني و التطوير لسنين ما بعد الن
فط، أرى أن الهدم الذي يحصل من الأمطار لبيوت الطين لم يكن ملحوظا لأن ما يتبعه هو بناء مشابه لسابقه، و أرى أن التطوير كانت فجيعة للكويتيين آنذاك لما فيه من تغيير ليس لصورة المعيشة فقط و إنما لجغرافية المكان ككل

أنا اشهد غدينا قالها لي بحسرة . عجوز وقور جالس بجواري*
لقد شتتوا -يا للحسافة- شملنا . كأننا قطيع ضائع ببراري
يقولون خلف السور تبنى
مساكن . و (ماكو) وراء السور غير قفار
لو فرضا (بالچول) عشنا فمن ترى . يكون صديقي في الفريج و جاري؟
فقلت له: يا عمي هذا قرارهم . و ليس بمُجد منك أي فرار
فهل جاكم التثمين هذا سؤالنا . إذا اجتمعنا في الفريج عصاري
يقولون في المرقاب و الشرق ثمنوا . (عسى الله يستر) قالها بو مشاري

غدينا: ضعنا
الچول: الصحراء

* من قصيدة المُعنى٢ لعبدالله العتيبي/ شعر عبدالله العتيبي دراسة موضوعية و فنية، أ.د. توفيق الفيل

و بعد أن بكيت سينما الحمراء، ثم البيوت التي انكرفت مع بناء المكتبة الوطنية الجديدة و أنا أرى مقاطع جلبانها و طرقها و أساساتها، و كأنها مكتبات تحترق أمامي، نفذت البلدية أسلوبها المعتاد، و بئس القرار

لقد فرحت في أول خطوات هدم منطقة المكاتب التجارية المطلة على قصر السيف، ظنا مني بأنه نوع من الترميم يعيد إلى هذه المنطقة حياتها خاصة أن موقعها بالضبط مع نهاية أزقة سوق المباركية إلى قصر السيف، و من الطبيعي أن إنعاش هذا المكان بمحلات تجارية -ربما تكون لمن يريد بدء نشاطه التجاري من الشباب- بدور واحد أو دورين سيكون في غاية الجمال، و لكن هيهات فلقد سمعت - و أرجو إعلامي إن كنت على خطأ- أنهم سيهدمونها كليا و يحولون المكان إلى حديقة و قد يرجع ذلك لغلو سعر الأرض في هذه المنطقة

استغربت القرار و تعجبت منه، فحاولت النظر في خريطة ا
لمكان علّي أرى فيها دليل. إن مباني التجار التي تهدم مقابل قصر السيف كانت من أنعش المناطق حيث كانت البضائع تأتي من المرفأ و عبرها إلى ساحة الصفاة. و على ذلك فإن محور اهتمامنا في التوزيع الحضري لمنطقة سوق المباركية ينحصر بين مكاتب التجار أمام قصر السيف، و المحلات و المسجد الموجودين في ساحة الصفاة كما هو مبين بالصور


و من الصورة الجوية العامة للمنطقة قمت بتظليل الممرات المهمة التي تصل المنطقتين ببعضهما البعض، مع تبيين المساحات المهمة


ثم رسمت ما قد يحل بالمنطقة لو أنا حولنا هذه المنطقة إلى حديقة، فهنا نلاحظ أن الشارع الموازي لشارع الخليج و المحاذي لمسجد السوق برز و ظهرت أهميته إذا كنا مارين من شارع الخليج، و هذه ميزة حيث أن هذا الشارع شبه منسي من المواقف المحيطة به، و لكني لا أدري إذا كانت الحديقة قرار صائب من الناحية الأمنية خاصة بعد معرفتي ببعض الطلبة الذين تم إيقافهم من أمن الدولة بسبب التصوير الفوتوغرافي لقصر السيف لمشاريع جامعية، فما بالك بساحة أمام القصر؟ فنحن لا نريد الشعور أن مع نهاية سوق قديم تبدأ مساحة خضراء يغلب عليها الطابع السياسي، و تحفها الحراسة، فوجود المنطقة بمجالها التجاري مهم و منطقي و جذاب


بعدها فكرت في أن تنظيم هذه المنطقة سيكون أبلغ ما يكون إذا عولجت مشكلة مواقف السيارات، و بذلك نحصل على مساحة مكملة لأزقة سوق المباركية و لكن بإدراك لأهمية وجود مساحة فراغية ليتنفس فيها شارع مسجد السوق العامودي على حركة الناس السائرين على الأقدام و الموازي لحركة راكبي السيارات. و أعتقد أن هذه المنطقة إن أحسن تصميمها ستؤثر بالضرورة على ساحة الصفاة، فتحديد قطب للمنطقة يتطلب إنعاش القطب الآخر و إن جعلنا للمحلات التجارية في ساحة الصفاة الموجودة تحت جسر شارع فهد السالم أولوية للكويتيين الشباب مثل القطب الآخر في نهايته نكون بالتوحيد الوظيفي للقطبين قد أشعلنا نوع من استقطاب الحركة في سوق المباركية و يجعل تجربة الدخول و المشي في شوارع السوق أكثر قربا لواقع الحركة الذي كان في السابق، و بانتهاء الأزقة إلى شارع الخليج يشعر الإنسان بقرب البحر، و ليس في سوق مترامي الأطراف بوسط مدينة متعالية البنيان


و على ذلك فإني أرى منفعة في هذا التسلسل في التفكير في كل أرض مبنية قبل أن يتم هدمها، و أتمنى أن يكون هناك إصدار إجباري لدراسة شاملة للمنطقة من تاريخ و استراتيجية بورشة عمل و متبعة بندوة تشرح تفاصيلها قبل إصدار قرار الهدم