إن الحكم في الأمور و على الأشياء هو غاية التجارب و أصل الكلام. لكن الغاية ليست النهاية، إنما هي نقطة يتحول عندها الحكم إلى حدث آخر تابع له و على أساسه يكون الأمر أو الشيء يمر بسلسلة من التحولات الغير منتهية، و لهذا فإننا نرى ظاهر التاريخ متشابها حتى إذا رأينا ردود أفعال الناس لتلك الأحداث من سنة لأخرى بان اختلاف واضح للفكر المتغير على وقائع التاريخ التي لا نستطيع أن نجزم بثباتها. فتحليلات فيلسوف عن أحداث الحرب العالمية الأولى، قد تختلف في حينها عن تحليلاته لها نفسها بعد عشرين عاما منها. إن الزمن يغير الأمور و إن ذلك من طبائع الحياة التي قد تخرج حتى من إرادة الإنسان
عندما يبدأ إنسان في إعادة النظر في الشيء و شرح رأيه الجديد فيه بعد مرور الزمن، نرى تابعا مباشرا لهذا الفعل أن ينقسم الناس بين المستحسن و المستهجن كلٌ راد الفكرة لأصل في ذاته، و ذلك يحول منهج التفكير و التحليل إلى منهج جماهيري يبدأ فكريا و ينتهي اجتماعيا. يكمن الخلل في المنهج الجماهيري إلى أنه يولد التباسا بين الفكرة الجديدة المبنية على أصل معين مع وعي ببيئته و حكمه السابق، و بين حكم مبني على فكرة جديدة، و جهل بأصله و حكمه السابق
اللغة هي ما تسبب الالتباس، فخطورة اللغة هي قدرتها على أن تكون لعبة، يستطيع فيها أن يكون الجاهل فنانا و الضليع مبتدئا. فتضيع الموضوعية إلى حديث رائع في أطراف الموضوع تعيدنا إلى الوراء حيث نقطة الحكم و نظن أن المتكلم ينظر إلى الأمام في شيء لا نراه، و لا يراه هو ، و بذلك ينشأ التغييب الكامل لأصل الأمور و الأشياء. إن المقصد في القول أن أمر الاستحسان و الاستهجان أمر لا يجوز البت فيه حال صدور فكرة جديدة، إلا إذا كانت تخلو من القيمة أو الجديد. و عليه يجب على المتلقي الابتعاد النسبي عن معتقداته لأن الجديد هو من أصل المعتقد لكنه تغيير للرأي فيه، بالضبط كما يبتعد الفنان عن لوحته لتأملها ثم يرجع لإضافة خط آخر
و على ذلك فإن الفكر الجديد، و النظرة الخلاقة عادة ما تنشأ و تتضح رؤاها عندما يغيب عامل المدح و الذم أو عندما يصعب الحكم فيه. و اللغة هي الفيصل في الأمر. و الصورة هنا ما هي إلا تجربة تبين أن لكل أمر ترتيب لأبعاده و لكل شيء علاقات قد تبتعد عن قانون الإدراك الفردي، و ايجاد علاقات بين أشياء و أمور هو بالضبط ما قد يتصادف مع بعض في صورة، خارجة عن إرادة الإنسان و لا تحتمل وجود مادح و لا ذام