يقول زور بن الزرزور اللي ذبح بقة، و ترس سبعة جدور
كان يا ما كان في قديم الزمان، غابة خلت من الأصوات، فلا تسمع صباح العصافير و لا عصاري القردة أو سهر الذئاب و الضفادع. و أصبحت الحيوانات تعرف بعضها من دبيبها أو زحفها أو قفزها. كان أهل الغابة في غاية الحزن على ما أصابهم فلم يدر أحد كيف اختفت أصواتهم، و لكن ظل عندليب الغابة يغرد بصوته العذب. في أول أيام ذلك المصاب، كان العندليب ُيسِرّ سعادة في نفسه لأنه عندما يبدأ بالغناء تنصت له كل الحيوانات في طرب يصاحبه شجن على حالها. و كانت أصوات حركة الحيوانات تضيف إيقاعا حلوا للسامعين. كانت ألحانه فرِحة لفرحه بالصمت المخيم على الغابة، فصار ينشد كل ما في قلبه من المشاعر و القصائد و الحكايا
و مع حلول الخريف، بدأت ألحانه بالذبول و التساقط مع أوراق الشجر، فكان صوته لا يزيد أهل الغابة إلا هما و حزنا، غير أنه استمر بالغناء بكبرياء الطامع بالثناء حتى انفرد به مديح النفس للنفس. و جاء يوم أصفر آخر، وقف فيه العندليب نافشا صدره و تغطي عينيه مسحة زجاجية تجمع صلفا و وهنا ثم فتح منقاره بكسل، و استجمع نفسه و هَمّ بالغناء. الصمت ما زال مخيما على الغابة، اعتادت الحيوانات سماع صوته في هذه اللحظة، لم يسمع أحد شيئا، و لا حتى صدى، أين العندليب؟ أين العندليب؟
"أين أذهب؟ أين أذهب؟ يالمصيبتي يالعاري، ولّى صوتي ولّى وقاري. إلى أين أطير؟ أي ريح أطيع؟ و إلى أي الأجواء المسير" و شرع يناجي نفسه الهائمة بالفضاء عله يجد في فكره الدليل ففي مثل هذا الحدث على الطيور تنقلب الموازين حتى أنها قد تعمى العين و تُبصر الفِكَر
"لقد كنتُ المستحيل، كنت ما لا يكون، فكيف استحال بي الحال و صار جناحاي أبلغ من لساني، أجناحاي حقا أبلغ من لساني؟ أواه أجل أجل كل ما بي الآن أبلغ من لساني. أمات لساني من غرور أصابه؟ أم عجزت الرياح عن إرسال النغم؟؟ ما من فضاء يضم عندليبا لا يعندل، ما من شجرة تمد أغصانها لعندليب لا يعندل " و هو في هذا و ذاك من التساؤلات في حسرة، إلى الملابسات في المعنى حتى صدم شجرة كبيرة جليلة
"أما تنفك الطيور عن الطيران على غير هدىً، معشر الطيور عميان محلقون" تذمرت الشجرة طاردة الكلمات الأخيرة في همهمة تقرب إلى التنهيدة. ثم أنها هزت جذعها بخُيَلاء و كأنها تومئ إلى العندليب أن يبتعد، و تجاعيد وجهها تشكلت كعجوز كويتية تقول "سْليحَط" فقام الطير من العشب متألما معتذرا بإيماءة برأسه لأخت النملة المتوفاة تحته إثر الحادث و متطلعا بخجل إلى حيث تتجمع ثنيات الجذع و تتعقد لتشكل وجه الشجرة المسنة. نظرت إليه الشجرة في انتظار اعتذاره، فما جاء منه إلا النظر الطويل و الصامت إلى محياها، و ما زال هذا حالهما حتى صار رفّ جفونه أكثر إزعاجا من صمته العجيب، و لوهلة تغير تعبير الشجرة و كأنها أدركت ما حلّ بالعصفور فقالت
"هي الريح تهب علينا تسلب ما نحب على غفلة منا، هي الريح تجرف أوراقي و تسرق الأحوال، لتقدمها قربانا إلى الفضاء" تعجب العصفور من مقالها الذي كان يخرج منها كمناد من قاع بئر، فاستطردت تقول "إن أردت صوتك فهو أسير الفضاء، لقد حدث مثل هذا الأمر منذ زمن بعيد حين ثارت الريح على الأصوات ترسلها كل يوم، فقد حل على الغابة زمن تعطل فيه الجديد و استمر فيه البالي من الأحاديث تتكرر في نفس النبرة و الحين، كل يوم"، فزع الطير من كلامها و قال في نفسه ....لهذا تأخرت سرقة صوتي، لأني كنت لا أُتبع لحنا بمثله، حتى إذا أصابني الغرور و العُجب صرت أكرر على نفسي أناشيدي كالمذكر بأمجاد ذاته، و غاليت في ذلك حتى نفر مني صوتي
ارتسمت على وجهه علامة استفهام كمن يريد أن يعلم ماذا يصنع، و علمت الشجرة بمراده و قالت: "طر بذاك الاتجاه بعيدا بعيدا إلى أن تصل إلى صحراء صفراء واسعة الصفحة، تائهة الأطراف. حتى إذا استوى الأفق خطًا من كل اتجاه تكون وصلتَ مدينة الرياح" فطار العندليب مقبلا على أمله الوحيد
و رفرف العندليب حاملا هم صوته المسروق، يشق الريح كمن يريد الثأر منها، لقد كانت الريح السارقة هي التي تحمله على ذراعيها إلى مدينتها، لعوب كانت الريح تداعبه و تصفعه، تدفعه و تثنيه تحاول التغلغل إلى قلبه لتكشف مصنع عزيمته و هو يراوغها بكبرياء العدو الذي لا يستطيع الاستغناء عن عدوه
وصل الطير مداه بعد يومان و ليلة، و استراح ينتظر الفجر في غُبشة ليلة غابت فيها النجوم، و ما درى أمن غشاوة السحاب غابت النجوم أم من غشاوة العيون المتعبة. و راقب خيوط الفجر تغزل ألوان السماء و نهض بعد الصمت الجليل دويٌ اهتزت معه الأجواء، و أحس العندليب بالفضاء يزدحم بلا أحد فترفعه الرياح و تحطه كأن الأرض انصاعت للسماء فما لها حُكم و لا ثبات
أغمض العندليب عينيه و أسلم نفسه للرياح ترقص به بأهازيج جميلة، فأصواتها مألوفه لكن أنغامها تعانقت بانسجام ساحر عظيم، آمن العندليب بطيب نوايا الرياح، و فهم مرادها و أسباب ثورتها. أدرك أن الأصوات سرقت لما لها من قيمة أفقدها إياها أصحابها، سرقتها الريح ليعلو القدْر بالفقْد. و بفهمه لمنطق الرياح، قرر أن يحمل عبء تبليغ أهل الغابة و لكن بدون خطبة صريحة ولا تغريدة فصيحة، و إنما بخطة وكيحة. و هوى على الأرض يجمع أوراقها و عيدانها، و حاك منها كيسا و طاف على الرياح يجمع أصوات أهل مدينته حتى إذا ملأ كيسه و احتدمت الأصوات فيه، آب إلى دياره مسرورا مسِرّا أمرا عظيما
و مع بزوغ الفجر بزغت المدينة عند مرمى الأفق، و عندما بدأت قمم أشجارها تداعب ريشه فتح الكيس و ألقى بالأصوات بعشوائية، فأعطى الغزال النقيق و القردة البطبطة، و الهزار نعيقا و الحصان نهيقا، و تبلبلت الألسن و تبدلت و صارت الحيوانات تبحث عن بعضها بعيون تائهة لا تدري أتفرح لعودة الأصوات أم تجزع لاختلاف صوتها عما كان في سابق عهدها. اختبأ العندليب في ثغر رفيقته الشجرة و صار يراقب الحيوانات من بعيد، كانت تستحي الكلام و الغناء في البداية، لكنها بعد عدة أيام، و للبعض بعد عدة شهور صارت تحاول الانسجام، فصار الغزال بنقيقه يحن لضفدعة بسليلها لاختلاط صفاتهما، و بدأ نوع من الإبداع في الغناء و الحداء لتجربة الأصوات التي لم يألف أحدهم أن يصدرها
و بعد أن اطمأن العندليب على ارتعاشات الحياة بين أهالي غابته، لم يعد يشعر أنه ينتمي إليها، و هو الذي ظل على صوته وخرج عن قانون عهدهم الجديد الذي صنعه، إلى تجربة أدهى و أشق، فتغيير أصوات الحيوانات ألزمها تجديد أساليب التعامل و الحوار و لكن بقاء العندليب على صوته يلزمه تجديد روحه، فقرر الترحال مع الريح علّه يستمد منها ما يجعل وقع النبضة بعد النبضة أروع
و بين الحين و الآخر يراود العندليب شك الخطأ و الصواب فيما أحدث في تلك الغابة، لكنه كالقدر، لا يندم على شيء