DEEMA ALGHUNAIM

View Original

المذكرة الثامنة

مازلت أذكر كل شيء عن مدينتنا القديمة
عن حارتي الرملية الصفراء و المقل الحزينة
لما نحدق في السماء على السطوح
نضبت جرار الماء و الغدران مثل يد البخيل
محلت فأمست كالقبور
مخسوفة سوداء تملؤها الصخور
و على الضفاف الغارقات
بالشمس و الرمل المندى و الضباب
وقف الصحاب
يترقبون سفينة الماء التي قالوا تعود
بالماء من نهر الشمال
فالأرض رمل و السماء
بيضاء صافية كنهر من جليد
هيهات أن تمطر. و يهتف من بعيد
نفر يبشر: أن صارية تلوح
كهلال مئذنة يغلفها الضباب
عبر العباب
و على ظهور جمالنا الظمأى تحجرت القراب
سوداء فارغة يغطيها التراب
كبطوننا
صلي إذن فالموت أقرب ما يكون
و الريح أغرقت السفينة و السماء
حقدت علينا يا أمينة
صرخات طفلك في الظلام أتسمعينه؟
نهداك ملؤهما الحليب و أنت ظمأى ترضعينه
في بيتك الطيني قابعة حزينة
تتساءلين عن السفينة
و عن السحاب و عن رفاقي في المدينة
و الأفق صحو و النجوم
زرقاء تبرق مثل أقراط ثمينة
و تثور عاصفة كأن قوى الوجود
سمعت أنينك فوق أرض لا تجود
إلا برمضاء الرمال و بالدماء
و الجوع و الجدري يفتك بالصغار
ضحكاتهم في الليل تبرق كالنجوم و في الصباح
يتساقطون كما الزنابق حين تعصفها الرياح
و كما تنير الشمس أعماق الكهوف
إيماننا بالأرض ملء قلوبنا رغم الجفاف
نحن الرجال
نحن العطاء إذا تعذرت الحياة عن العطاء
و في السماء
الجنة الخضراء و المطر الذي يروي الحقول
لا في القصور الشامخات
أو في خزائن أغنياء مدينة إسطنبول و روما
البعيدة
تلك التي شبت بها النيران. أبرقت السماء
عيناك تحت ضيائها الفجري تشرق يا أمينة
مثل الشموع
و الريح كالراعي الذي ألقى عصاه
لينام خلف الأفق. و البرك الحزينة
بدأت تفتح مثل أفواه الجياع
مثل البراعم حين يلفحها شعاع
حتى خليفة جارنا الأعمى تحسس أن أمطاراً
ستهبط يا أمينة
هل تسمعينه؟
هل تسمعين عصاه تقري السلم الطيني
تبحث عن مداه
فالسطح يزخر بالمياه
و البركة الجوفاء فارغة كبطن الذئب تبحث عن
غداء
أختاه أمطرت السماء
و ذكرتُ قصة من تمرد ضد طاغية عنيد
في ذلك الماضي البعيد
فتألبوا كي يقتلوه
و تساءل الملك الذي في كفه أمر المدينة
عن ميتة أقسى من الموت الذي قرروه
فرموه في الصحراء حيث رؤى السراب
كالماء يبرق في مهاويها الرحاب
و يروح يركض ثم تنبجس المياه بكل خطوه
فإذا الرمال الصفر ربوه
خضراء تملؤها الأزاهر و الطيور
و بكوخه عند الغدير
جلس المشرد كالنبي ليكتب الكتب الكثيرة
عن رحلة الإنسان فوق الأرض و الدنيا الأخيرة
عيناه ينبوعان من نور و جبهته ظهيرة

مذكرات بحّار ١٩٦٢ للشاعر محمد الفايز ١٩٣٨-١٩٩١

بحاري الحبيب، وسوست لي ما يكفي عن هاجس المطر. عن مكاتيب تنشف ريق قارئها و قرابين كُثُر. بحاري عطاؤكم بعيد، عطاؤكم بعيد. و هأنذا أكتب في اليأس. ظننت مدة أنني من بُعدك أتأذى و لكن يبدو أنك من محاولات وصلي تتعذب. فكفانا إيماناً بالمدى و لنقل قد كان سراب. و لتعد البسمات إلى عين الشمس كسنون طفل وسيم

أبرقت السماء، فرسمت بالضوء خرائط مدينتنا؛ قصوراً فوق البيوت و شوارعا فوق السكيك و دكاكين تُباع و تُشترى.. ما فيها أحد، فأنت هناك، و لقبك الآن "كان". و لهذا ينظرها الناس من بعيد، مدينتي، و يظنون فيها الحياة لكن فيها تدور عذراء الموت تجمع أشياءنا في ساحة رملية و تصلي للمطر حتى تكتمل المائدة

بحاري غشتنا الصدفة بمكاييل الرؤية، و شكهم بقوى الخيال بدأ يفنيني شيئا فشيئا